علماء أوزبكستان ودورهم في تطور الحضارة الحديثة

2 min read

آسيا اليوم-بختيار إريسوف

إن لمنطقة ماوراء النهر (أوزبكستان حاليا) مكانة خاصة في تاريخ الحضارة الإسلامية. إذ ساهم العلماء المنحدرون منها في تطوير العلوم الطبيعية والإنسانية، والكشف عن أسرار الطبيعة والمجرات والكواكب السابحة في الكون على مر العصور.

وقبل أن نبدأ فى نشرمقالات عن أجداد الشعب الأوزبكي نود ذكر بعض الآيات التي أنزلها الله سبحانه وتعالى على الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) ودعا المسلمين فيها إلى القراءة والتعلم والتحصيل والبحث عن المعرفة.

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ  * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ *  اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ  * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ  * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ".  

(1)
عبر تاريخها كله، مضت شعوب البلدان الإسلامية على هدى هذه الدعوة، وأولت اهتماما فائقا نحو التعليم والبحوث العلمية في مختلف الميادين، وأسهمت في تطوير الحضارة العالمية. وما زال هذا التقليد مستمرا حتى يومنا هذا.

وطبقا لاعتراف دوائر البحوث الأجنبية، فقد أصبحت منطقة ما وراء النهر(بين نهري سيرداريا و أموداريا – أوزبكستان الحالية ) مركزا للازدهار العلمي والثقافي خلال القرون 9- 15، باستثناء فترة غزوها من قبل جحافل المغول في القرنين الثالث عشر والرابع عشر. وكانت لعملية التطور والازدهار في هذه المنطقة، التي سُميت بعصر النهضة الشرقية، التأثير الإيجابي الملموس على إحياء العلم والثقافة في الغرب.

وقد أسهم بصورة خاصة في إثراء الفكر العلمي على مستوى العالم علماء انحدروا من هذه المنطقة أمثال: محمد بن موسى الخوارزمي، أحمد الفرغانى، أبو ريحان البيروني، أبو على ابن سينا، محمود الزمخشري، محمود التشاغميني، ميرضياء أولوغبك، علي القوشتشى والعديد من الآخرين الذين خلفوا تراثا غنيا في مجالات: الرياضيات والهندسة وحساب المثلثات، والجبر والكيمياء والهندسة والفلك والجيوديسيا (علم المساحة التطبيقية)، علم المعادن، والصيدلة، والطب والفنون والجغرافيا واللغة العربية غيرها من المجالات الأخرى. وحتى يومنا هذا، فما زالت أعمالهم، التى صارت مصدرا هاما للمعرفة الموسوعية، تُستخدم على المستوى العملي.

الخوارزمي

محمد بن موسى الخوارزمي

ولنبدأ بالعالم محمد بن موسى الخوارزمي، الذي عاش وعمل في نهاية القرن الثامن والنصف الأول من القرن التاسع، وأسهم إسهاما قيما في تطوير علوم الرياضيات والفلك وعلم المثلثات، والجيوديسيا والجغرافيا.

وكانت آسيا الوسطى فى تلك الفترة تمثل جزءا من الخلافة العربية، التى شهدت في ذلك الوقت طفرة عاصفة فى النمو الاجتماعي والاقتصادي، وازدهارا فى التجارة، والحرف، والمعمار، والزراعة، والأبحاث الفكرية، التي تطلبت بدورها تعميق المعرفة في المجالات المذكورة أعلاه من العلوم. وترأس الخوارزمى "بيت الحكمة"، الذي أنشأه والد الخليفة المأمون (813-833) في بغداد.

ومن المسلم به بصورة عامة أن الخوارزمي هو مؤسس علم الجبر، الذى ينبثق مصطلح تسميته من الأطروحة التى وضعها العالِم بعنوان "الكتاب المختصر في حساب الجبر والمقابلة" ("كتاب مختصر حول حساب التفاضل والتكامل"). وخلد العلم اسمه، وترسخ فيه بمصطلح كلمة الخوارزمية، الذى يعنى سلسلة حسابية معينة، يمكن من خلالها التوصل إلى حل المعضلة الرياضية.

ترك لنا محمد الخوارزمي حوالي عشرين مؤلفا علميا. لكنه لم يبق من هذه المؤلفات حتى يومنا هذا سوى سبعة فقط، وكانت بمثابة الكتب المرجعية للعلماء في المجالات ذات الصلة في الشرق والغرب على السواء. وقد استخدمت باعتبارها أساسا للتدريس في المؤسسات التعليمية.

وقد مثلت أعمال العالم في مجال الجغرافيا الأساس لوضع العديد من الأعمال الأخرى في هذا المجال. وأصبحت جداوله الفلكية (زيج) نقطة الانطلاق نحو تطوير علم الفلك في الشرق والغرب.

الفرغاني

أحمد بن كثير الفرغاني

عالم آخر من المعاصرين للخوارزمي هو أحمد بن كثير الفرغاني (797-865)، الذي اكتسب شهرة واسعة في أوروبا تحت اسم الفرجانوس. وقد ترك أثرا لا يُمحى فى علوم الفلك والرياضيات والجغرافيا. وتُرجم مؤلفه بعنوان "جوامع علم النجوم والحركات السماوية" مرتين إلى اللغة اللاتينية (فى القرن الثاني عشر) وإلى اللغات الأوروبية الأخرى (فى القرن الثالث عشر).

قدم سلفنا العظيم إسهاما كبيرا إلى الخزانة العالمية لكنوز العلم، ووضع من الأعمال التي خلدت اسمه إلى الأبد وجلبت له الشهرة العالمية. وقد وصل إلينا فقط 11 مؤلفا من أعماله باللغة العربية، من بينها: "عناصر علم الفلك"، "حساب السبعة أقاليم المناخية"، "الكتاب المثالي حول بناء الأسطرلاب الشمالي والجنوبي مع البراهين الهندسية"، "كتاب حول بناء الساعات الشمسية"، و"كتاب حول طريقة العمل مع الاسطرلاب".

وتشير المصادر إلى أن الممثل البارز لعصر النهضة الأوروبية، ريجيومونتان (1436-1476) العالم الألماني فى النجوم والأجرام وعلوم الفلك والرياضيات، كان يلقى محاضرات في جامعات النمسا وإيطاليا حول أعمال الفرغاني. كما قدر عاليا أعمال الفرغاني ومؤلفاته، أولئك العلماء الأوروبيون المعروفون أمثال جان ليرون دالمبيرت (1717-1783)، ك. بروكلمان (1863-1956)، خ. زوثر (1848-1922)، فضلا عن زملائهم من العلماء الروس مثل إ. يو. كراتشكوفسكى (1883- 1951)، أ. ب. يوشكيفيتش (1906-1993)، ب. أ. روزنفيلد (1917-2008) وغيرهم من العلماء الآخرين.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن العالم أقام خلال حياته نصبا تذكاريا لنفسه – وهو بناء شيده لقياس منسوب ارتفاع المياه فى نهر النيل (فى مصر) – وهو مقياس النيل الذى ظل يُستخدم لقرون عديدة لتحذير السكان من اقتراب الفيضانات.

(2)

فى المادة التالية من هذه السلسلة سوف نعرفكم على عدد آخر من قادة العلوم، الذين أصبحوا يمثلون فخرا للعالم الإسلامي. 

كانت السمة المميزة لعلماء تلك الفترة تتمثل فى معارفهم وفكرهم الموسوعي. وقد تأصلت هذه الصفات أيضا لدى أبو ريحان البيروني (973-1048) – العالم الجهبذ فى مختلف المجالات، من علم الفلك والفيزياء والرياضيات والجيوديسيا، إلى الجيولوجيا وعلم المعادن والتاريخ والإثنوجرافيا. وقد أثرت إبداعاته في تلك المجالات المحتوى العلمي لها.

البيروني

 البيروني

وُلد أبو ريحان البيروني في بلدة بيرون إحدى ضواحي مدينة كاث عاصمة ولاية خوارزم القديمة. وأبدى منذ طفولته في وقت مبكر اهتماما كبيرا بتحصيل العلوم الطبيعية الدقيقة، وكذلك العلوم الإنسانية. وتلقى تعليمه على يد العالم الشهير أبو نصر منصور بن عراق، الذي امتدت أعماله إلى مجالات شتى مثل علم الفلك، والهندسة، والرياضيات.

وتكريما لفضل معلمه عليه وما منحه من هبات عظيمة، كرس له التلميذ اثنى عشر مؤلفا من أعماله. وبالإضافة إلى لغته الأم، تعلم البيروني اللغات: العربية، السجدية (تنتمى إلى مجموعة اللغات الشرقية الايرانية)، الفارسية، الآشورية، واليونانية. وفي وقت لاحق في الهند أتقن اللغة السنسكريتية.

كتب البيروني في مؤلفاته العلمية، أنه بدأ القيام بأول دراساته الفلكية، عندما كان فى مدينة كاث منذ عام 990. وبهدف تحقيق غايته، اخترع عددا من الأجهزة التي استخدمها في سياق عمله.

وكان أهمها نموذج للكرة الأرضية بقطر كبير للغاية بلغ حوالي 5-6 أمتار، والذي قام بصنعه في عام 995. واستخدم لقياس المسافات بين المدن بدقة، وكذلك لتحديد عرض وأطوال التضاريس والأماكن. وكان هذا النموذج هو الأول من نوعه الذى يمثل خريطة مجسمة للكرة الأرضية في العالم الشرقي، والتى تم تصميمه وفقا للأسس الرياضية فى وضع الخرائط.

في مدينة جرجان، الواقعة عند جنوب شرق بحر القزوين، كتب في عام 1000 مؤلفه "الآثار الباقية عن القرون الخالية". وقد جلب له هذا العمل شهرة كبيرة وكشف بوضوح عن سعة معارفه الشاملة.

يحتوي المؤلف على معلومات حول شعوب خوارزم القديمة، بما في ذلك أصحاب الديانات مثل اليهودية والمسيحية، وعبدة النار، وكذلك حول العادات والتقاليد والأعياد لدى المسلمين.

وفي الوقت نفسه، فإن الكتاب مكرس لتناول البراهين النظرية للمنهج والأساليب التاريخية والإثنوجرافية (علم السلالات والأعراق) والإثنولوجية (علم دراسة تنوع أشكال النشاط لدى مختلف الأعراق) والطبية، والمصادر التاريخية والعلمية وطرق البحث العلمي ومنهجيته، والصراعات والنزاعات والتعميمات التاريخية، وعدد من القضايا الأخرى، ويمثل الكتاب مصدرا لا يقدر بثمن للمتخصصين في تلك المجالات.

بالإضافة إلى ذلك، وضع البيروني في جرجان أكثر من عشرة أعمال في علم الفلك وتاريخ المقاييس. كما أثارت معارفه الموسوعية إهتماما لدي حاكم جديد لخوارزم أبو العباس مأمون بن مأمون، الذي دعا العالِم إلى أورجانتش عاصمة البلاد، حيث استقبله بالترحيب والحفاوة. وبعد أن بدأ أنشطته البحثية في أكاديمية المأمون حديثة الانشاء، تجلت موهبته باعتباره شخصية علمية شاملة، وتم تعيينه مستشارا للحاكم في أرفع منصب بالبلاد. 

خلال فترة الأعوام 1017- 1048 وضع البيروني عددا من أعماله: "الشخصيات البارزة فى خوارزم"، "تحديد حدود الأماكن للتحقق من المسافات الدقيقة بين النقاط الآهلة بالسكان" – "الجيوديسيا"، " التفهيم لأوائل صناعة التنجيم "، "الهند"، "القانون المسعودى" (مؤلف فى علم الفلك والأرصاد) ، "الصيدنة في الطب"، "مفتاح علم الفلك"، "كتاب الجماهر في معرفة الجواهر"، "كتاب الأحجار" وغيرها. في هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أنه خلال عامى 1035 – 1036، وضع العالِم قائمة بأعماله ومؤلفاته، والتي شملت 113 عملا.

وقد خصص منها: 70 مؤلفا لعلم الفلك، 20 للرياضيات، 12 للجغرافيا وللجيوديسيا، 3 للمعادن، 4 لرسم الخرائط وغيرها من العلوم الأخرى. وإذا أخذنا في الاعتبار أنه وضع أكثر من 50 مؤلفا خلال السنوات الثلاثة عشر المتبقية، فيتجاوز عدده الإجمالي 160 مؤلفا.

ووفقا لبعض المعطيات الأخري فإن تراثه العلمي يتجاوز أكثر من 200 كتاب. مع ذلك، ولبالغ الأسف، فإن معظمها لم يصل إلينا وفقدت عبر القرون الماضية. وكان كل عمل منها يمثل نوعا موسوعيا بذاته في شتى مناحى العلوم. 

منذ أوائل القرن التاسع عشر، أصبح تراث البيروني محط الاهتمام لبلدان أوروبا وآسيا. وقام عدد من العلماء فى تلك البلدان بتخصيص كتبهم لأعماله الإبداعية والإشادة ببحوثه العلمية، بما في ذلك رأيه حول أن "سقوط الأجسام على الأرض سببه الجاذبية"، والذي صرح به قبل فترة طويلة من ظهور قانون الجاذبية العالمى الذى وضعه الفيزيائي الإنجليزي عالم الرياضيات والفلكي إسحاق نيوتن (1643-1727).

وقد تُرجمت أعمال المفكر العظيم إلى اللغات: اللاتينية، والفرنسية، والإيطالية، والألمانية والإنجليزية، والفارسية والتركية، وما زال حتى يومنا هذا محط انتباه الدوائر العلمية في العالم.

ابن سيناء

ابن سيناء

 أبو علي بن سينا (980-1037)، المعروف في العالم باسم ابن سينا، أحد العلماء الموسوعيين العظام في العصور الوسطى. و لا تزال أعماله تمثل مصدرا ثريا للمعرفة القيمة في شتى مجالات العلم، كما أن تراثه الذي أثار الإعجاب لدى الدوائر العلمية فى مختلف العصور، لتعدد جوانبه وشموله، يتراوح وفقا للمصادر المختلفة بين 450 و500 عملا في شتى المجالات مثل: الرياضيات و الفيزياء و الكيمياء و علم الفلك والطب و الفلسفة و الأدب و اللغويات والموسيقى، بما يشمل حوالي ثلاثين مجالا علميا. 

من أهم أعمال ابن سينا الأساسية متعددة الأجزاء "كتاب الشفاء"، و"القانون فى الطب"، و"كتاب الإنصاف". ويتكون الكتاب الأول من 22 مجلدا مخصص لأربعة أقسام رئيسة هى – الرياضيات والفيزياء والمنطق و ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا). وقد تُرجم عدد من المجلدات إلى اللغات الأوروبية والشرقية والروسية والأوزبكية. 

الكتاب الثاني الذي حاز الشهرة الأعظم في العالم، يتكون من خمسة مجلدات. يغطي كل جزء منها مجالا معينا فى الطب بصورة شاملة. بالإضافة إلى ذلك، فقد وجد موضوع الشفاء انعكاسا له أيضا في أعمال أخرى للعالِم، مثل "الأرجوزة في الطب".

ويحتل هذا العمل المرتبة الثانية من حيث المحتوى والأهمية بعد كتاب "القانون فى الطب"، والمحفوظ في خزانة الكتب بمعهد أبو ريحان البيروني للدراسات الشرقية لأكاديمية علوم جمهورية أوزبكستان في طشقند. ويمثل كتاب "رسالة النبض" لابن سينا العمل التالي من حيث الأهمية في مجال الطب، حيث يعطى العالِم عشرات الأنواع من النبض ويصف أهمية التشخيص. 

الكتاب الثالث هو كتاب "الإنصاف" المكون من عشرين مجلدا، ولكنه للأسف لم يصل إلينا وفُقد مثله مثل العديد من أعمال ابن سينا الأخرى. 

فخر أوزبكستان

عبر القرون الطويلة كان أتباع الدين الإسلامي الحنيف، بما فيهم شعوب ما وراء النهر (أوزبكستان الحالية) ينجذبون فى تلبيتهم لتلك الدعوة نحو تحصيل المعارف، سواء في العلوم الإنسانية أو العلوم الطبيعية. وبفضل جهودهم المبذولة، ارتقت البشرية إلى آفاق لم يسبق لها مثيل في تطورها. 

وفى عرضنا لكوكبة من العلماء الموسوعيين العظماء، الذين انحدرو من هذه المنطقة، لا يجوز أن نغفل النجم البارز فى العلم محمود بن محمد بن عمر الجغميني الخوارزمي (القرن 12-13)، الذى نال شهرة واسعة بفضل إبداعه الثرى. ومثله في ذلك مثل غيره من علماء العصور الوسطى، لم ينحصر عمله في مجال واحد من العلوم.

ويشهد التعرف على الأعمال التي خطها بقلمه، أنها تغطي مجالات شتى مثل علم الفلك والرياضيات والطب، والجيوديسيا والجغرافيا والفلسفة وغيرها من التخصصات الأخرى. وقد انتشرت أعماله على نطاق واسع في الغرب والشرق. ومع ذلك ظلت سيرة حياته الشخصية غير مدروسة بالقدر الكافى. 

وفقا للمعلومات الشحيحة التي وصلت إلينا، فإنه وُلد في قرية جغمين، التى تقع بالقرب من عاصمة الدولة الخوارزمية في أورجانتش في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، وكانت خوارزم واحدة من المراكز العلمية المعترف بها، التي كان لا بد وأن تؤثر على تشكيل وجهة نظر العالِم الناشئ. 

بعد تلقي التعليم الأولى في خوارزم، ذهب إلى سمرقند لمواصلة إثراء معارفه. وهناك اكتسب مجال العلوم الدقيقة مكانته ضمن دائرة اهتماماته. 
تتمثل الإسهامات القيمة لمحمود الجغميني في تطوير العلوم في المقام الأول من خلال اكتشافاته في علم الفلك. ويمثل مؤلفه "أطروحة فى الحياة" (ملخص فى علم الفلك) نوعا من المؤلفات الموسوعية التي تشمل ليس فقط دراسة كواكب الفضاء، ولكن أيضا عددا من المجالات الأخرى.

ويتألف من مقدمة، وسرد حول العناصر والفضاء، وكتابين – "حول المجالات السماوية" و"حول الأرض". يضم الأول منهما دراسة حول المدارات الفضائية الضخمة للكواكب، ويتناول بالتفصيل لأول مرة، نظام الإحداثيات، والأساس الذي يقوم عليه وهو المستوى الأفقي للرصد. 

وتتجسد القيمة العلمية لهذا العمل فى أنه انعكس على إنجازات ونجاحات المفكرين في الشرق، ولا سيما فى آسيا الوسطى، وأيضا على نتائج الأبحاث التي قامت بها المدرسة اليونانية فى علم الفلك.

في مجموعة مؤلفاته وضع الجغميني أبحاثه الافتراضية في مجال العالم المحيط بنا، والأجرام السماوية، وكسوف الشمس والقمر، وفترة امتداد الليل والنهار، وغيرها من المعضلات.

وطبقا لرأيه، "يمكن اعتبار الشمس مركزا للكواكب المشعة"، وأن عددا من الكواكب، ولا سيما القمر، ليست مضيئة بذاتها. بل تتلقى الضوء من الشمس وتضيء الأرض، وبهذا الارتباط، يعتقد العالِم أن الشمس هى مركز الأجرام السماوية. 

وتجدر الإشارة إلى أن الجغميني أولى اهتماما كبيرا نحو تطبيق الرياضيات على حل المعضلات الفلكية. وأسفرت نتيجة عمله المثمر عن تطوير أسس علم المثلثات الكروية، والتي انعكست مفاهيمها الرئيسة في مؤلفه "ملخص في الحياة". 

إن الجغميني هو مؤلف للعديد من الأعمال الأخرى، بما في ذلك "حول موقع العدد 9 في الرياضيات"، و"تعليقات على الطريقة الرياضية فى تقسيم الميراث" وغيرها.

وفي العملين الأخيرين، وضع العالِم موقفه من الاعدادات الرياضية وتطبيقها في الممارسة، وتناول جوانب المعضلات الرياضية غير المكتشفة أو ضعيفة التحقق. 

وتشير المصادر إلى أن أعمال محمود بن محمد ظلت محفوظة حتى يومنا هذا، وتم التطرق إليها في تعليقات مفصلة من قِبل عدد من العلماء المعروفين مثل: علي بن محمد بن علي حسين الجرجاني، قازي زاده الرومي، ميرسيد شريف. أما الأعمال الفلكية والرياضية والطبية للجغميني ، فقد استخدمت خلال الدروس التعليمية بمدرسة ميرضياء أولوغ بك في سمرقند في القرن الخامس عشر. 

ميرضياء أولوغ بك

طراغاي

عند زيارة السياح لأوزبكستان وتعرفهم على معالم سمرقند، ينبهرون بصورة خاصة أمام الأعمال العلمية والأنشطة السياسية لمحمد طراغاي، المعروف باسم ميرضياء أولوغ بك (1394-1449)، وهو حفيد رجل الدولة العظيم، والقائد الأسطوري حامل شعلة الاستنارة الأمير تيمور. 

وُلد ميرضياء أولوغ بك في مدينة السلطانية خلال زمن الحملات الفارسية لجده المجيد، وتم تعيين الشاب ميرضياء أولوغ بك – الابن الأصغر لشاه روح- وهو في سن السابعة عشرة حاكما على ما وراء النهر وتركستان. وخلافا لجده، لم يكن مهتما بالحملات العسكرية.

وقد تأثر كثيرا بعلماء الرياضيات والفلك العاملين فى البلاط، مثل مولانا أحمد القاضي زاده الرومي، وتجلى ذلك التأثير فى ظهور موهبته وقدراته غير العادية فى العلوم الطبيعية، التي احتلت مكانة هامة في حياته المستقبلية.

وطبقا لمعاصريه، صار أولوغ بك وهو في سن العشرين من عمره ضمن عداد كبار العلماء في زمنه، وتمتع بصيت كبير في الأوساط العلمية. وقد انصب اهتمامه الرئيسي نحو التنوير وتطوير التعليم.

وبهدف تحقيق هذه الغاية، بدأ في إنشاء المدارس في سمرقند وبخارى وغيجدوان، ودعا إليها نحو مائة من العلماء في مجالات: الأدب والتاريخ والخط، والفنون البصرية و فن العمارة، والرياضيات وعلم الفلك. وهكذا، أرسى القاعدة الصلبة لتعليم الأجيال المقبلة وازدهار الأراضي الخاضعة لإدارته. 

خلال الأعوام 1424 – 1429، كان أولوغ بك مستغرقا تماما في بناء المرصد الفلكى في سمرقند. وقد أتاح له البدء فى ممارسة نشاطه العلمي هنا أن يتفرغ للأبحاث الهامة، والتي سوف تشكل في المستقبل أساسا للإنجازات التاريخية لذلك العصر، ونهضت بالفكر العلمي في المنطقة إلى آفاق رحيبة.

على وجه الخصوص، وبفضل تلك البدايات، ففي عام 1444 بعد مرور 30 عاما من العمل الدؤوب والشاق والرصد الفلكي، وضع فريق من العلماء برئاسة ألوغ بك دليل النجوم الفلكية، والمعروف باسم "زيج ألوغ بك" أو "زيج جوراجان الجديد".

ويتضمن المعلومات حول 1018 من النجوم، موزعة على 38 من الأبراج. ووفقا لآراء المتخصصين، فإن عمل أولوغ بك يعد الأكثر توثيقا وكمالا بالمقارنة مع غيره من الجداول المماثلة فى ذلك الوقت. وقد تُرجم إلى اللاتينية واستخدم باعتباره مصدرا رئيسا للمراصد الفلكية فى أوروبا. 

بالإضافة إلى ذلك، تعود إلى ريشة أولوغ بك أيضا "أطروحة حول تعريف جيب الزاوية بدرجة واحدة" في الرياضيات، والأطروحة بعنوان "دراسة لأولوغ بك" فى علم الفلك (النسخة الوحيدة محفوظة فى مكتبة جامعة الأقلية الهندية)، و "تاريخ أربعة قرون". 

(3)

كان حامل الشعلة العلمية بعده واحد من أبرز علماء تلك الفترة، وهو علي القوشجي (1402-1474)، الملقب ببطليموس الشرق، وذلك بفضل إسهاماته العظيمة في العلم.

القوشجي

علاء الدين أبو القاسم علي بن محمد القوشجي

واسمه بالكامل هو علاء الدين أبو القاسم علي بن محمد القوشجي. وُلد وترعرع في سمرقند. وشمل نشاطه العلمي الرياضيات وعلم الفلك بصورة رئيسة. 

 عمل محمد والد القوشجي – عالما فى الطيور في بلاط ميرضياء أولوغ بك، وكان ذلك هو السبب في منحه لقب القوشجي (مربي الطيور). وانتقل هذا اللقب نفسه إلى ابنه عالِم المستقبل. غير أن والده سرعان ما وافته المنية، وظل الشاب علي تحت رعاية أولوغ بك. 

تلقى على تعليمه الأولي بما في ذلك العلوم الدينية في سمرقند. ودرس الرياضيات وعلم الفلك على يد أساتذة العلوم فى عصره – قاضى زاده الرومي، وميرضياء أولوغ بك. في عام 1424، بدأ الأخير فى بناء المرصد المذكور أعلاه، حيث اجتذب إليه أيضا علي القوشجي لإدارة أعمال البناء، والقيام بالملاحظات الفلكية. 

غير أنه في عام 1449 بعد مقتل ميرضياء أولوب بك، تعرض مرصده للتخريب، وتم تشتيت نخبة العلماء المبدعين الذين عملوا فى المكان. كما جرى نهب وسلب دار الكتب المحلية التي استغرق انشائها سنوات طويلة. ولم يتبق أي شيء عمليا من مركز العلوم، باستثناء خندق المرصد. 

وقد دفعت هذه الأوضاع على القوشجي إلى تعليق النشاط العلمي والانتقال إلى تبريز (بلاد فارس). وهناك التحق بخدمة رئيس الدولة آق قيونلو أوزون حسن، الذي أرسل العالِم إلي تركيا وبعث به لقصر السلطان محمد الثاني – الحاكم السابع للإمبراطورية العثمانية، باعتباره رسولا لعقد السلم بين الدولتين.

وكان محمد الثانى قد جمع كل العلماء البارزين في ذلك الوقت تحت رعاية بلاطه، وكدليل على الاحترام الكبير نحو على القوشجي، طلب منه البقاء في القسطنطينية بصورة دائمة. وقبل على الاقتراح. وعقب هذا القرار، انطلق العالِم مرة أخرى صوب تبريز لاستكمال مهمة المبعوث.

وهناك كان بانتظاره بالفعل الأقارب والأصدقاء، الذين عاد معهم إلى مقر إقامته الدائم في القسطنطينية. واحتفل الحاكم بهذا الحدث احتفالا كبيرا. 
منذ ربيع عام 1472، تم تعيين على القوشجي كبيرا للمعلمين فى مدرسة آيا صوفيا ومسؤولا عن إدارة المسجد الذي يحمل نفس الاسم. واستطاع فى الأوقات اللاحقة ان يقوم فى المدرسة بتدريب وتعليم كوكبة كاملة من العلماء الأتراك البارزين. 

على الرغم من أن العالِم لم يعش في القسطنطينية سوى عامين فقط من حياته المتبقية، إلا أن هذه الفترة من الوقت كانت تفيض بالأنشطة العلمية والتعليمية التى قام بها. وعلى وجه الخصوص، فبعد أن صار تلميذا مخلصا لأولوغ بك، احتفظ علي القوشجي بعمل أولوغ بك القيم "زيج ألوغ بك" أو "زيج جوراجان الجديد" (دليل النجوم)، وقام بنسخه إلي العديد من النسخ الأخرى، وترجمه إلى اللغة التركية وكتب التعليقات الملحقة به. وعلى هذا النحو، أصبح هذا العمل لاحقا متاحا للعلماء في أوروبا وآسيا. 

 في القرن السابع عشر قام عالم الفلك البولندي يان جيفيلي بنشره في أوروبا. وعُثر فى الكتاب على انعكاس لنقش يصور اجتماعا رمزيا لأعظم علماء الفلك في العالم، والذين عاشوا في أزمنة متباينة وفي بلدان مختلفة. وهم يجلسون إلى الطاولة من جانبيها. وكان أولوغ بك ضمن الجالسين، والمثير أن واضع النقش قد صور عالِم ما وراء النهر، دون أن يكون لديه صورة لوجهه. 

وتشهد المصادر على أن علي القوشجي قد خلف ما يقرب من ثلاثين أطروحة حول الرياضيات وعلم الفلك وعلوم اللغة. وتضم بينها مؤلفه "رسالة في الحساب" الذي وضعه في سمرقند عام 1425. ويتألف من ثلاثة أجزاء: نظام حساب الأعداد العشرية، ونظام الأعداد الستينية والعمل الهندسي. 

ومن الأعمال الهامة الأخرى: "رسالة الكسور"، وقد وضعها في سمرقند عام 1426، و"رسالة حول الافتتاح" وهى أطروحة حول علم الفلك، و"الرسالة المحمدية في الحساب" وهى أطروحة حول علم الحساب والجبر والهندسة وحساب المثلثات، "رسالة فى حالة شكل الهلال" وهى أطروحه حول قياس أشكال الهلال، و"شرح مفتاح العلوم عند التفتازاني"، وهو تعليقات على مؤلف التفتازاني "مفتاح العلوم"، و"رسالة دار علم الحياة"، وهى أطروحة حول علم الفلك، والتي وجدت صدى لها انعكس فى الأبحاث والنجاحات التى حققها علماء مدرسة سمرقند فى الفلك وغيرها. 

ويُحتفظ بمخطوطات هذه الأعمال الآن في خزانات مختلف المكتبات، بما في ذلك: خزانة الكتب لمعهد أبو الريحان البيروني للدراسات الشرقية و المكتبة العلمية فى سان بطرسبورج بفرع معهد الدراسات الشرقية التابع لأكاديمية العلوم الروسية و مكتبة الأكاديمية الروسية للعلوم، المتحف البريطاني، مكتبة جامعة أكسفورد، مكتبة جامعة كمبريدج، مكتبة برلين الحكومية، مكتبة المجمع التذكاري للإمام رضا في مشهد، مكتبة آيا صوفيا في تركيا، ومكتبة الفردوسي الوطنية في دوشانبي (عاصمة طاجكستان) وغيرها. 

(4)

كانت الأطروحات المذكورة أعلاه معروفة على نطاق واسع في الأوساط العلمية ليس فقط فى بلاد ما وراء النهر، ولكن أيضا فى أوروبا والشرق الأدنى والشرق الأوسط، وكان بمثابة الأساس للتطوير اللاحق للاتجاهات البحثية التي طرحها علي القوشجي. 

لقد كرس العالِم كل حياته الواعية وإبداعاته للعلوم. ولكن أكثر السنوات تحصيلا وإنتاجا بالنسبة إليه، كانت تلك التي قضاها مرافقا لميرضياء أولوغ بك في مرصد سمرقند. 

لقد نُقشت بأحرف من الذهب في سجلات تاريخ العلوم، تلك الأسماء المذكورة أعلاه للعلماء الموسوعيين فى بلاد ما وراء النهر، مع إبداعاتهم والمقتطفات المختصرة من حياتهم.

وفي هذا الصدد، واعترافا بحقيقة الإسهام الكبير لأوزبكستان في عملية تطوير الحضارة العالمية، ولخدماتها المتميزة للثقافة الإسلامية والعلوم، وكذلك تقديرا وإجلالا للتدابير التى اتخذتها قيادة الجمهورية، والهادفة إلى إحياء القيم الثقافية والروحية للشعب الأوزبكي، وللحفاظ على المعالم الأثرية للحضارة الإسلامية بعناية وحمايتها، وللاستمرار فى إثراء تراث الماضي، قررت المنظمة الإسلامية الدولية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو)، والتي تمثل أحد هياكل منظمة التعاون الإسلامي، إعلان طشقند عاصمة للثقافة الإسلامية في عام 2007 .

بالعودة إلى أحداث القرون الماضية، تجدر الإشارة إلى أن الزخم الخاص بصحوة التوجه إلى الكشف العلمي لأسرار الكواكب التابعة للمنظومة الشمسية وخارج المجموعة الشمسية، ووجود الكرة الأرضية وما خارجها، والظواهر الطبيعية، والكائنات الحية، والخلق الإلهي المفترض للإنسان، والعلاقات الاجتماعية، والجوانب الدينية والقانونية للمجتمعات الاسلامية، كان الحافز له هو حركة الترجمة التي بدأت في الشرقين الأدنى والأوسط منذ القرن الأول الميلادى، ونشطت بصورة واسعة خلال القرن السابع وحتى القرن السادس عشر.

وقد شملت تلك الحركة نطاقا واسعا في البعدين الجغرافي والعلمي، مما جعل تنظيم مناحى البحوث أمرا عسيرا. وقامت فرق من المترجمين المخلصين بتركيز جهودها نحو ترجمة الإنجازات الفكرية والتراث الروحي والمادى لثقافات وأديان الشعوب الأخرى فى كوكبنا، الغريبة عن عالمهم، وخاصة ذلك التراث فى اليونان وروما، والصين، والهند، والبحث عن كل ما يمكنه إثراء الفكر والمعرفة، ونقل الحداثة إلي الأنشطة العلمية المحلية، ومنحها الشكل والمضمون الجديدين. 

وبعد أن استوعبت بداخلها أفضل إنجازات العصور السابقة للحضارات القديمة، والثقافات الإيرانية والهندية والصينية، واصل العلماء في هذه المنطقة تطوير تلك الانجازات في ظل الظروف الجديدة، وقدموا رؤاهم حول المضامين الجديدة فى الحياة، ونجحوا فى تحقيق تقدم غير مسبوق عمليا في جميع مجالات العلم. وهكذا أصبحوا روادا للفترة الذهبية للحضارة الإسلامية. 

كان العلماء الموسوعيون من الشعوب الإسلامية عظماء حقا، لما وضعوه من الاتجهات النظرية والتطبيقية فى الأبحاث الدقيقة والإنسانية العلمية، وما حققوه من الاختراعات والاكتشافات.

ومن المعترف به عامة، أن إنجازاتهم المتحققة في مختلف المجالات، لم يتفوقوا بها فقط على أسلافهم لسنوات عديدة، ولكنهم أيضا وضعوا بها أسس تشكل الاتجاهات العلمية الجديدة والبحوث فى بداية عصر النهضة في الغرب. 

في هذا السياق فمن المناسب التأكيد على أنه باعتراف المجتمع العلمي الدولي، يعود الفضل للشعوب الاسلامية أيضا فى اختراع وتصميم الطائرات، والبلور، والقبة السماوية (عباس بن فرناس، القرن التاسع)، والساعات، وآليات رفع المياه، والعمود المرفقي (  احد العناصر الرئيسة للمحرك) (الجزري، القرن 12- 13)، والأدوات الطبية، والخيوط المصنوعة من أمعاء الأغنام والماعز لاستخدامها فى الغرز الداخلية خلال العمليات الجراحية (الزهراوى – القرن 10-11)، والكاميرات الفوتوغرافية (ابن الهيثم، الذى وضع أسس العلوم البصرية، – القرن 10-11)، والمئذنة المقاومة للزلازل في تركيا، والسفن والجسور (الحاج معمار السنان – القرن 15-16)، عقارات التخدير – البنج (. ثابت بن قرة فى القرن 9)، والكشف عن فيروس الدرن (كامبور وسيم ، فى القرن الثامن عشر). ويمثل هذا ذرة صغيرة فقط من كل ما تم إبداعه في العالم الإسلامي خلال القرون الماضية. 

ليس هناك شك في أن الدعوة المذكورة أعلاه من قبل الله سبحانه وتعالى، سوف تظل تمثل حافزا للمسلمين على البحث العلمي والنشاط الإبداعي المتنوع، وتحقيق الاكتشافات الجديدة، وبالتالي تظل تلهمهم لتقديم المزيد من الاسهامات في تطوير الحضارة الحديثة. 

أبوبكر أبوالمجد https://asiaelyoum.com

صحفي وباحث متخصص في شئون آسيا السياسية والاقتصادية

قد يعجبك أيضاً

المزيد من الكاتب

+ There are no comments

Add yours