سمير عطالله كاتب صحفي
عندما كنت صغيراً (منذ زمن بعيد) كان ساعي البريد يأتي في الصيف إلى القرية مرتين في الأسبوع، على حصان رمادي، أشيب ومُتعب. في الشتاء لم يكن يأتي، لا أحد تقريباً في القرية، ولا ضرورة للبريد. وعندما أصبحت فتى، صار الساعي نفسه يأتي، أيضاً مرتين في الأسبوع، ولكن على دراجة بخارية يبدو أنه اشتراها مستعملة.
يوم البريد، في الصيف، كان مفرحاً مثل يوم العطلة. تصل الصحف إلى مشتركيها متأخرة قليلاً، ولا أهمية اطلاقاً لذلك. وتصل أحياناً الرسائل إلى الوالهين في زمن الصبا. وهناك الرسائل التي لا تصل، لا في اليوم الأول ولا في الثاني، لا على الحصان الرمادي الساكن مثل عمره، ولا على الدراجة البخارية الصاخبة الساخطة الخارقة هدوء القرى وصمتها الطويل.
عندما سافرت وأنا في العشرين، كانت أول رحلة لي إلى مركز البريد. فجأة، رأيتني وحيداً مثل سائر البشر في المدن الكبرى، وليس لي من أخاطبه سوى الأصدقاء. وجلست أكتب الرسائل، ثم أحملها إلى مكتب البريد. وسرعان ما صار وجهي أليفاً هناك. وزياراتي. فالموظفون اعتادوا على أن الغرباء في بداياتهم، تكون الرسائل صلتهم الوحيدة بالعالم. وربما أحياناً مصادفة في مقهى. الباقي زيارات صامتة إلى المكتبات العامة وجولات بلا نهاية في الحدائق.
وكان لك أن تسأل، كل يوم، عاملة «الاستقبال» في النزل القديم: «هل من بريد اليوم يا مدام مولان؟». وكانت مدام مولان ترمي لك المفتاح على الطاولة، من دون أن تتطلع في وجهك، وتضحك ساخرة: «لا. ليس اليوم. لماذا لا تنتظر الأعياد فقد تصلك بطاقة ما». ثم تضحك.
كانت المدام مولان، مجهولة الاسم الأول لكي لا تفقد هيبتها عند النزلاء، تحرص أن تشدد على صورتها كسيدة عالمة بأحوال الناس والدنيا. كم نزيل مرَّ وهي خلف الطاولة. وكم حكاية. وكم انتظار. وكم بريد لا يصل. مع أن الساعي هنا، توضح المدام مولان مكايدة «يمر يا صديقي العزيز مرتين في النهار. مرة في الحادية عشرة، ومرة في الخامسة عشرة».
مع نهاية عصر البريد انتهى عصر الانتظار، وبَعُدَ كثيراً في الزمن، زمن الحصان الرمادي الساكن مثل غروب القرى. والآن وأنا في جبال السافوا، ترنّ الرسائل النصيّة على هاتفي: واحدة من تخفيضات الأحذية. وواحدة من المفروشات. وواحدة من ألعاب الأطفال.
المصدر: الحياة اللندنية
+ There are no comments
Add yours