حكايتي والقنصل

1 min read

أبوبكر أبوالمجد صحفي وباحث في شؤون آسيا السياسية والاقتصادية

إن أحد أهم ما يميز الصحفي الناجح هو قدرته على الالتصاق بالمصدر، والقرب منه، وتحويل علاقة العمل إلى الصداقة.

وفي مجال تغطية الشؤون الخارجية تكون المهمة أكثر صعوبة؛ لكن ليس مع مسؤول بطبيعة القنصل العام السابق لجمهورية أذربيجان بالقاهرة الدكتور إميل رحيموف.

صدق من قال الأيام الحلوة تمضي سريعًا، ففي فبراير 2015 جمعنا بالمسؤول الأذري أول لقاء وبدأنا العمل سويًا في 23 فبراير من نفس العام، وبعدها توالت بيننا اللقاءات والأحاديث والمشاورات والتعليقات وتبادل الزيارات.. لا أكاد أّذكر خلافا وقع بيننا في قضية سياسية؛ لكن الطباع تختلف من غير شك.

فالمسؤول الذي صار صديقًا حميمًا وأخًا كريمًا كان دائما الأكثر استيعابًا لمشاكساتي واحتواءًا لشططي وصبرًا على عاداتي التي كان أسوأها في رأيي المواعيد غير المنضبطة، والبطء في نشر الأخبار.

الدكتور إميل رحيموف الذي ولد في لنكران بأذربيجان في 26 ديسمبر 1978، كان يكبرني بأربعة أشهر فقط؛ غير أن القائل "أكبر منك بيوم يعرف عنك بسنة" كان صادقًا.

فالمسؤول الشاب كان من البصيرة بمكان حيث كان يحسن الاختيار والابتكار والتعامل مع الآخرين.

نشأ في بيئة متدينة جعلته يعشق اللغة العربية لعشقه تلاوة القرآن وحفظه، ولذا سافر إلى بلد الوسطية.. وطن أخوال العرب.. إلى المحروسة دوما "جمهورية مصر العربية" في العام 1996، وحصل على درجة الليسانس من كلية الشريعة والقانون من جامعة الأزهر في 2004.

ثم عاد إميل رحيموف إلى بلاده ليحصل على الماجستير من كلية اللغة العربية والآداب بجامعة القوقاز في باكو عام 2006، ثم الدكتوراة في الفلسفة الإسلامية من أكاديمية العلوم الوطنية بأذربيجان في قسم الدين وتاريخ الفكر الاجتماعي بمعهد الاستشراق عام 2010.

بعد هذه الرحلة العلمية وصل "رحيموف" مصر كملحق إعلامي في 2013، وهنا استطاع الشاب الفذ أن يكوّن دائرة كبيرة من الإعلاميين والصحفيين المصريين، ويبني معهم جسرًا متينًا من الصداقة والتواصل.

لم يكن من الصعب على الشاب الذي عاش في مصر لثمان سنوات خلت أن يتأقلم بسرعة مع طبائع المصريين وخاصة الصحفيين والإعلاميين منهم، وبذكائه الملحوظ وهدوئه الدائم كسب القلوب قبل العقول وجعل جميع الصحفيين والإعلاميين يهتمون كثيرًا بأذربيجان ويحرصون على تغطية أخبارها وجميع الفعاليات والمؤتمرات والمنتديات بها.

من واقع تواصلنا واحتكاكنا بالعديد من المسؤولين في السلك الدبلوماسي قلما تجد متفانيًا يسخر وقته وجهده وفكره على مدار اليوم تقريبًا إلا من قليل ساعات لأجل خدمة وطنه.

فالمسؤول الشاب كان حريصًا على متابعة كل القنوات والصحف المصرية يوميًا من أجل تقييم الصحفيين والإعلاميين المتواصلين بجدية مع السفارة وأخبارها، وكذلك من يعادون أذربيجان لصالح سفارة جمهورية أرمينيا التي تحتل دولتها 20% من الأراضي الأذربيجانية في إقليم "قاراباغ" الجبلي، كي يسعى إليهم ليعلمهم بالحقائق التي ربما غابت عنهم، وبالفعل استطاع وقف العديد من الهجمات الأرمينية على بلاده في الصحف والمواقع والفضائيات المصرية، أو على الأقل الرد عليها سريعًا، وتوضيح الكثير من خفايا الصراع الأذربيجاني مع أرمينيا، وحق أذربيجان في أراضيها المحتلة المدعوم بقرارات أممية لا تنفذها دولة أرمينيا.

لم يكتف المستشار الإعلامي لسفارة أذربيجان بالقاهرة بالتقرب إلى الصحفيين والإعلاميين بموجب عمله وحسب؛ بل دفعه حب لمصر والمصريين أن يكون على مسافة أقرب من مؤرخين وأدباء وأكاديميين ومثقفين وسياسيين مصريين أيضًا بحكم الفعاليات التي كانت تنظم في العديد من الجامعات والمراكز الثقافية الكبرى بالقاهرة كدار الأوبرا وغيرها، والأندية الدبلوماسية.

والحال لم يتغير مع الأكاديميين والأدباء والمثقفين والمؤرخين والسياسيين، فقد كان قادرًا على كسب قلوبهم مثلما كان الحال مع الصحفيين والإعلاميين، مع إدراكنا أن لكل رجل كارهيه، فالناس لا تجمع على أحد؛ لكننا نتحدث عن الغالب الأعم.

كان رحيموف يتحرك في كل الاتجاهات دون أن يترك بابًا يمكن أن ينفذ من خلاله للتعريف ببلاده وحقها التاريخي في أراضيها المحتلة، والذب عنها إلا وسعى إليه وطرقه، فالحال عند الرجل لم تكن المهمة الدبلوماسية الموكلة إليه، وإنما الواجب الوطني، وقضية التعريف بوطنه كان يراها هم كفيل ألا يجعله يخلد حتى لبعض الراحة.

من غير شك أن القنصل العام السابق حظى بالكثير من الدعم من السفيرين اللذين عمل معهما سواء السفير السابق لجمهورية أذربيجان بالقاهرة شاهين عبداللايف أو السفير الحالي تورال رضاييف؛ لكننا نتحدث عن الرجل الذي ارتبطنا به أكثر وارتبط بنا بحكم عملنا الصحفي ودوره المركزي بالسفارة كمستشار إعلامي وقتئذ.

كانت ثقته بنفسه منبع هدوئه، وإيمانه بالقضية ينبوع طاقة تتجدد لا توقفه عن البحث أو التواصل أو المتابعة أو الشورى.

ذات يوم وقبل أشهر من رحيله عن مصر بعد انقضاء مدة عمله هاتفني طالبًا مقابلتي، وسألني مساعدته في إنجاز كتاب عن مذبحة كبرى ارتكبها الأرمن في أبناء شعبه اسمها "خوجالي".. وافقت على الفور لأني كنت أدرك قيمة هذا الاختيار، فالقنصل كان لديه ولا يزال طابور طويل من الأصدقاء الذين يفوقوني ثقافة وقربًا منه؛ لكني بصورة أو بأخرى كنت الأكثر إيمانا بما أكتب هكذا أظن.

أذكر أني كتبت عن مذبحة خوجالي مقالًا قبل أكثر من عام من مهاتفته لي، وحين أرسلت له رابط المقال اتصل بي يقول: "لقد مر على هذه المذبحة ما يقرب من ربع قرن، كتب فيها وعنها كثيرون؛ لكن بعد الذي كتبت كأني أعرفها لأول مرة".

فالرجل بحكم ثقافته المتدينة، وعشقه للغة العربية كان يقدر العبارة الأدبية ذات الصياغة الجيدة، فقد لمس "رحيموف" أني لم أكن مهتم بمجرد نقل خبر عن ذكرى المذبحة؛ لكني عازم على أن يكون لي سبق في تصوير بل تجسيد ما جرى منذ أكثر من عقدين من الزمان حينئذ.

لم أزل أذكر كلماته بعدما طلب لقائي منذ أشهر: "لقد بذلت جهدًا كبيرًا حقًا قدر ما استطعت ووفقني الله لذلك؛ لكني لم أفعل شيئًا ملموسًا لبلادي، ولذا قررت أن أكتب كتابًا عن "مذبحة خوجالي" يكون مرجعًا لكل راغب في الإنصاف ورؤية وجه أرمينيا الحقيقي ومظلومية من أكبر مظلومياتنا لدى المحتل الأرميني.

لم يكن من السهل أبدًا العمل مع هذا الرجل، فهو دقيق للغاية، ولا يسمح لتفصيلة مهما كانت صغيرة ليست فقط في بعض العبارات التي كنت أشاركه كتابتها ولكن حتى تلك المتعلقة بتنسيق الصفحات وإخراج وتنفيذ الكتاب أن تمر دون مناقشتها، وأقسم بالله غير حانث كان بارعًا حتى أنه حمل عبء تنسيق الكتاب في بعض الأوقات لحرصه على أن يفعل كل شئ بيده.

كان يؤمن بأن الكمال لله وحده؛ لكن هذا لم ولا أظنه سيوقف رغبته في الوصول للكمال في كل عمل يعمله، أو مشروع ينفذه.

بقدر صعوبة العمل مع الرجل بقدر الاستمتاع الذي حظيت به والذي كان منبعه حسن التقدير وجمال عبارات التحفيز والرقة في التعامل وفي النهاية أن يجاور اسمك اسم هذا الشاب الطموح والدبلوماسي العبقري والسياسي المحنك والإنسان الراقي على عمل سيظل خالدًا ما بقيت الدنيا.

أشهد أن وجود هذا الإنسان كان إضافة في حياتي واستفدت منه الكثير ولم أزل أتعلم أكثر كلما استرجعت الذكريات بيننا.

الدبلوماسي الأذري لم يكن خافيًا أبدًا عشقه لمصر، وكان يراها أهم دولة في منطقة الشرق الأوسط، ولطالما روى لي أنها أرض خير وبركة وفيها رزق بعد سنوات حرمان من البنين بابنته "كوثر"، وفيها احتك بكثير من الدبلوماسيين والسياسيين والمثقفين الذين تعلم منهم واستفاد من خبراتهم، وفي حفل وداعه أذكر أنه قال: "كل بلد عربي بعد مصر سيكون العمل فيها أيسر بكثير، وقدرتي على التكيف معها سيكون أسهل، فمصر هي البلد الأصعب والأكبر والأهم سياسيًا ودبلوماسيًا ومن ينجح في مصر سينجح في أي مهمة دبلوماسية توكل إليه في أي بلد عربي أو حتى إفريقي".

حرص الدبلوماسي الإنسان على فتح دفتر أصدقائه الضخم، وراح يودعهم على طريقته الخاصة على امتداد شهرين بطرق مختلفة، فمنهم من دعاه لزيارته في بيته وتناول الإفطار في شهر رمضان المبارك معه، ومنهم من زاره في السفارة، ومنهم من حضر اللقاءات المجمعة التي كان يجمع فيها أصدقائه على مدار الساعات الطويلة من اليوم، كل هذا كان من منطلق حرصه ألا يترك أحدًا من أصدقائه دون وداعه.

قبل أيام من رحيله شرفت بمجالسة حشد من أصدقائه الذين توسطهم "رحيموف".. جميعهم راحوا يعددون محاسن الرجل، حتى أني لاحظت الدموع رقراقة احتبسها بابتسامة قبل أن يقف ملقيًا كلماته التي عبر فيها عن حبه لمصر والمصريين، وتشرفه بكل من عرفهم حتى أولئك الذين اختلفوا معه بسبب أرمينيا.

وأذكر أنه لم ينس أبدًا بلاده ولا أن ينصح للصحفيين الذين يدعون المهنية والحياد، أن يبحثوا عن الحقيقة ونقل وجهتي النظر لا يعني أبدًا أن يظل الصحفي على الحياد خاصة في القضايا التي تمس حقوق الإنسان والمسلمين والأوطان.

كما كان حريصًا على أن يلتقط صورًا للذكرى مع كل أصدقائه فردًا فردًا أثناء مصافحته لهم متمنيًا أن يكون اللقاء بهم قريبًا جدًا إما في مصر أو أذربيجان.

إن القنصل العام السابق لسفارة جمهورية أذربيجان بالقاهرة أتعب من سيأتي بعده، فقد قام بعشرات اللقاءات والأحاديث في الصحف والقنوات ونقل عن بلاده مئات التصريحات وبنى جسورًا مع مئات الصحفيين والإعلاميين والسياسيين والدبلوماسيين والمثقفين والأكاديميين، ومهد الطريق في حب واحترام أذربيجان حكومة وشعبًا لأنه كان خير رسول لبلاده خاصة لعالم الميديا.

رحل الرجل عن مصر، وتركنا هنا نجاور ونحاور ذكرياته المحفورة في قلوبنا وعقولنا، وعلى بعد أميال وبعد أيام من رحيله وتحديدًا منذ الخامس عشر من الشهر الجاري نؤكد له عبر سطورنا هذه أنه سيظل في قلوبنا وعقولنا، وسيلحق به دعاؤنا له بالخير والسعادة والتوفيق أينما ووقتما كان.

 

 

أبوبكر أبوالمجد https://asiaelyoum.com

صحفي وباحث متخصص في شئون آسيا السياسية والاقتصادية

قد يعجبك أيضاً

المزيد من الكاتب

+ There are no comments

Add yours