حكاية مسجد الظاهر بيبرس في مصر.. من الخراب إلى الإعمار

1 min read

آسيا اليوم 

اليوم.. صار الحلم حقيقة.. تم ترميم ثاني أكبر مساجد المحروسة.. إنه مسجد السلطان العظيم الظافر “الظاهر بيبرس”.

السلطان بيبرس.. جد الكازاخ الأكبر وهكذا يلقبونه، وبهذا يفتخرون. 

السلطان الحكيم العادل هو .. الحاكم المعشوق من مواطنيه، تولى الحكم في مصر 17 من ذي القعدة 658هـ.

بعد مقتل السلطان “قطز” اتفق الأمراء المماليك على اختيار بيبرس سلطانًا على مصر، فدخل القاهرة، وجلس في إيوان القلعة في (17 من ذي القعدة 658هـ= 24 من أكتوبر 1260م).

 كان ذلك القرار إيذانًا ببدء فترة التأسيس والاستقرار لدولة المماليك البحرية بعد فترة التحول التي شهدتها، بعد قضائها على الحكم الأيوبي.

 كانت فترة قلقة شهدت حكم خمس سلاطين قبل أن يلي بيبرس الحكم، وكان عليه أن يبدأ عهدًا جديدًا من الثبات والاستقرار بعد أن أصبح بيده مقاليد الأمور في مصر والشام. 

مناقبه

قبل أن يلي بيبرس السلطنة كانت له يد بيضاء في معركة المنصورة الشهيرة، حيث كان من أبطالها ومن صانعي النصر فيها، وكذا كانت له يد لا تنسى في معركة عين جالوت، فتولى السلطنة وسجله حافل بالبطولات والأمجاد. 

أصله

السلطان بيبرس ولد في صحراء القبجاق سنة (620هـ= 1223م)، ووقع في أسر المغول وهو في الرابعة عشرة من عمره، وبيع في أسواق الرقيق بدمشق، فاشتراه الأمير علاء الدين إيدكين الصالحي البُنْدقداري، فسمي “بيبرس البندقداري” نسبة إليه، ثم انتقل إلى خدمة الملك الصالح نجم الدين أيوب، فأعتقه وجعله من جملة مماليكه، ثم ولاه رئاسة إحدى فرق حرسه الخاصة، ثم رقاه قائدًا لفرقة المماليك لما رأى من شجاعته وفروسيته.

صراعات المماليك

عندما تخلص الملك عز الدين أيبك من غريمة ومنافسه “فارس الدين أقطاي” زعيم المماليك البحرية، فر بيبرس ومن معه من المماليك إلى بلاد الشام، وظل رحالًا بين دمشق والكرك حتى تولى سيف الدين قطز الحكم سنة (658هـ-1260م)، فبعث إليه يطلب منه الأمان والعودة إلى مصر، فأجابه إلى طلبه، وأحسن استقباله وأنزله دار الوزارة وأقطعه قليوب وما حولها. 

اشترك بيبرس مع قطز في معركة عين جالوت سنة (658هـ= 1260م) وأبلى فيها بلاء حسنًا، وكان من أبطالها المعدودين.  

تولي السلطة

تولي بيبرس السلطنة عقب مقتل قطز، ولم يكد بيبرس يستقر في السلطنة حتى بدأ عهدا جديدًا وصفحة مشرقة في تاريخ مصر، وبدأ في التقرب إلى الخاصة والعامة، فقرب إليه كبار الأمراء ورجال الدولة، ومنحهم الألقاب والإقطاعيات الواسعة، ووجه عنايته إلى ترتيب شئون الدولة، وتخفيف الأعباء على الأهالي، فأعفاهم من الضرائب، وأطلق سراح السجناء، وجدّ في استرضاء رعيته، وأرسل إلى الأقطار المختلفة ليقرّ التابعون لدولته بسيادته وحكمه. 

غير أن الأمور لم تتم لبيبرس بسهولة ويسر، فتدعيم سلطان الدول يحتاج إلى مزيد من العمل، وقيادة تجمع بين السياسة والشدة والحزم واللين، وأعداء الدولة في الخارج يتربصون بها الدوائر، وحُكمه يحتاج إلى سند شرعي يستند إليه. 

بناء الجبهة الداخلية

بدأ بيبرس عهده بالعناية بدولته وترسيخ دعائمها والقضاء على الفتن والثورات التي اشتعلت ضده، ففي السنة الأولى من حكمه نشبت ثورتان عارمتان، إحداهما بدمشق والأخرى بالقاهرة، أما الأولى فقام بها الأمير “علم الدين سنجر الحلبي” نائب دمشق احتجاجًا على مقتل سيف الدين قطز، ورفضا للإقرار بسلطنة بيبرس، ولم يكتف بالتمرد والعصيان بل أعلن نفسه سلطانًا وحاول استمالة بعض أمراء الشام إلى جانبه، لكنه لم يجد معاونًا، ولجأ بيبرس معه إلى الإقناع والمسالمة للدخول في طاعته وترك العصيان، فلما لم تفلح معه الطرق السلمية جرد إليه جيشًا أتى به إلى القاهرة مقرنًا في الأصفاد في (16 من صفر 659هـ= 1260م). 

 

أما الثورة الثانية فقادها رجل شيعي يعرف بالكوراني أظهر الورع والزهد، وسكن قبة جبل المقطم، واستمال بعض الشيعة من السودان، وحرّضهم على التمرد على السلطة الجديدة؛ فثاروا في شوارع القاهرة في أواخر سنة ( 658هـ= 1260م)، واستولوا على السلاح من حوانيت السيوفيين، واقتحموا إسطبلات الجنود، وأخذوا منها الخيول، لكن بيبرس أخمد الثورة بمنتهى السرعة والحزم، وأمر بصلب الكوراني وغيره من زعماء الفتنة. 

 

إحياء الخلافة العباسية وكانت الخطوة الثانية التي خطاها بيبرس بعد أن استتب له الأمن في البلاد، وفرض سلطته، هي إحياء الخلافة العباسية التي سقطت مع سقوط بغداد في يد هولاكو في ( 4 من صفر 656هـ= 10 من فبراير 1258م) ولم يكن سقوطها أمرًا هينًا على المسلمين، وخيل لهم أن العالم على وشك الانتهاء، وأن الساعة آتية عما قريب، وذلك لهول المصيبة التي وقعت بهم، وإحساسهم بأنهم أصبحوا بدون خليفة، وهو أمر لم يعتادوه منذ وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم). 

 

ونجح بيبرس في استقدام أحد الناجين من أسرة العباسيين هو “أبو العباس أحمد”، وعقد في القلعة مجلسًا عامًا في 5 من رمضان 666هـ = 19 من مايو 1268م)، وكان سقوطها أعظم فتح حققه المسلمون على الصليبيين منذ معركة حطين سنة (583هـ = 1187م)، وسبق لنا أن تناولنا أحداث هذا الفتح العظيم في (5 من رمضان).

 

وعلى الجبهة الأخرى نجح السلطان بيبرس في الدفاع عن بلاده أمام هجمات المغول المتتالية، وفي تحقيق عدة انتصارات عليهم في “البيرة” و”حران”. 

وعلى الرغم من إخفاق مغول فارس في توسيع دولتهم على حساب دولة المماليك فإنهم كانوا يعاودون الهجوم، حتى ألحق بهم بيبرس هزيمة ساحقة عند بلدة “أبلستين” بآسيا الصغرى سنة (675هـ = 1277م) وبذلك أمّن بيبرس حدود دولته من الجبهتين الشرقية والشمالية. 

رجل الدولة والإصلاح 

 

لم تشغل بيبرس حملاته الحربية الناجحة عن عنايته بتنظيم الأمور الإدارية، والقيام بكثير من الإصلاحات الداخلية، واستحداث بعض الوظائف الإدارية، والعناية بديوان الإنشاء عناية فائقة وكان يقوم بمثل ما تقوم به وزارة الخارجية الآن، وأنفق عليه الأموال الطائلة، وبلغ من دقته أن أخبار الشام كانت تصله مرتين في الأسبوع، وصار على علم بما يدور في دولته المترامية دون بطء أو تراخٍ. 

وأدخل بيبرس تعديلات على النظام القضائي في مصر، حيث عين أربعة قضاة يمثلون المذاهب الأربعة، وأعاد الجامع الأزهر إلى ما كان عليه، وقام بترميمه وتعميره بعد الإهمال الذي لحقه في العصر الأيوبي. 

وأقام بيبرس عددًا من المؤسسات التعليمية، فأنشأ المدرسة الظاهرية بالقاهرة سنة (660هـ = 1262م)، واستغرق بناؤها عامين، وجعل بها خزانة كتب كبيرة، وألحق بها مكتبًا لتعليم أيتام المسلمين القرآن، وأنشأ بدمشق مدرسة عرفت باسمه، وشرع في بنائها سنة (676هـ = 1277م)، ولا تزال هذه المدرسة قائمة في دمشق حتى الآن، وتضم مكتبة ضخمة تُعرف بالمكتبة الظاهرية. 

 

وأنشأ في القاهرة جامعًا عظيمًا عرف باسم جامع الظاهر بيبرس سنة (665هـ = 1267م) ولا يزال قائمًا حتى اليوم، لكنه تعرض لإهمال شديد وبخاصة في فترة الاحتلال البريطاني لمصر، وكأن فتحه يثير في نفوس المصريين ذكرى البطولة والشجاعة التي كان عليها منشئ المسجد، فآثر الإنجليز السلامة وأغلقوا المسجد. وقد سُمي الحي الذي حوله بـ”حي الظاهر” نسبة إليه.

وأولى بيبرس عنايته بالزراعة فأنشأ مقاييس للنيل، وأقام الجسور، وحفر الترع، وأنشأ القناطر، واهتم بالصناعة وبخاصة ما يحتاج إليه الجيش من الملابس والآلات الحربية. 

 

وامتدت يده إلى الحجاز، فأقام عدة إصلاحات بالحرم النبوي، وبنى بالمدينة مستشفى لأهلها، وجدد في الشام مسجد إبراهيم عليه السلام وقبة الصخرة وبيت المقدس. ويذكر له أنه كان أول من جلس للمظالم من سلاطين المماليك، فأقام دار العدل سنة (661هـ = 1263م)، وخصص يومي الإثنين والخميس من كل أسبوع يجلس فيهما للفصل في القضايا الكبيرة يحيط به قضاة المذاهب الأربعة، وكبار الموظفين. 

وبعد حياة طويلة في الحكم دامت سبعة عشر عامًا توفي الظاهر بيبرس بعد أن تجاوز الخمسين في (28 من المحرم 676هـ = 2 من مايو 1277م) بعد أن أرسى دعائم دولة، وأقام حضارة ونظمًا، وخاض معارك كبرى للدفاع عن الإسلام، وتبوأ مكانة رفيعة في نفوس شعبه حتى نسج الخيال الشعبي سيرة عظيمة له عُرفت بسيرة الظاهر بيبرس جمعت بين الحقيقة والخيال، والواقع والأسطورة.

مسجد الظاهر بيبرس

 

من منشآت السلطان الظاهر بيبرس الدينية المهمة جامعه المعروف باسمه، والذى يصفه المقريزى فيقول “هذا الجامع خارج القاهرة وكان موضعه ميدانا فأنشأ الظاهر بيبرس البندقدارى جامعًا، بين عامى ‏665‏ ـ‏667‏ ه، ليكون تحفة معمارية شاهدة على روعة البناء فى العصر المملوكى، ويعتبر مسجد الظاهر بيبرس ثانى أكبر مساجد مصر بعد أحمد بن طولون، وأنشئ على مساحة ثلاثة أفدنة تقريباً.

ظلت الشعائر الدينية مقامة بهذا الجامع العظيم ولم تعطل إلا منذ أوائل القرن السادس عشر الميلادى، وذلك لاتساع رقعته وعجز الدولة عن الصرف عليه، وكان من نتائج ذلك أن ساءت حالة الجامع وتخرب، فحوله العثمانيون إلى مخزن للمهمات الحربية كخيام والسروج وغيرها، وفى عهد الحملة الفرنسية تحول الجامع إلى قلعة وثكنات للجند وعرف الجامع فى ذلك الوقت باسم قلعة سيكوفسكى، وفى عصر محمد على تحول الجامع إلى معسكر لطائفة ومخبز للجراية، ثم استعمل بعد ذلك مصنعًا للصابون.

وفى سنة 1812 نقلت اعمدة الجامع الرخامية وكذلك بعض أحجاره لبناء رواق الشراقوة بالجامع الأزهر، وذلك بناء على رغبة الشيخ الشرقاوى، كما ذكر كتاب “مساجد مصر وأولياؤها الصالحون”، كما يقال إن بعض أعمدة الجامع استعملت فى بناء قصر النيل، ومنذ سنة 1882م اتخذه جيش الاحتلال البريطانى مخبزًا ثم مذبحًا، وقد عرف ولا يزال “مذبح الإنجليز”، وإن كان الذبح قد اوقف منذ عام 1915م.

وفى عام 1918 تسلمت لجنة حفظ الآثار العربية الجامع فأصلحت بعض أجزائه ورممتها وخاصة الجزء المحيط بالمحراب وجعلت منه مصلى، أما باقى الجامع فقد حولته مصلحة التنظيم إلى منتزه، وفى عام 1970 بدأت مصلحة الآثار تهتم بإعادة بناء الجامع وإرجاعه إلى حالته الأولى.

وبرغم ما عانه جامع بيبرس من إهمال وسوء استخدام كما سبق الذكر، فإنه ما يزال يسترعى إعجاب الناظرين بجمال عمارته وفخامة مبانيه التى تظهر لأول وهلة فى مدخله التذكارية ونقوشه الجصية.

يتكون الجامع من مربع يبلغ طول ضلعه 100 متر ويحيط به سور من الحجر يبلغ ارتفاعه 11 متر ويعلو السور شرفات يبلغ ارتفاعها متر ونصف المتر، ما يزال جزء منها باقيا فى الضلع الجنوبى من المسجد، وقويت أركان الجامع من الخارج بأربعة أبراج اثنان مربعان على طرفى الضلع الشرقى والآخران مستطيلان، والأبراج مصمتة ماعدا ذلك الذى يشغل الركن الجنوبى الغربى فهو مجوف إذ يشغله درج يؤدى إلى سطح الجامع، وقد فتحت فى البرج الأخير أربع نوافذ صغيرة فى الجهة للغربية واثنتان فى الجهة الجنوبية واثنتان فى الضلع الشرقى وكذلك قوى السور الخارجى بدعائم.

يحتوى المسجد على ثلاثة مداخل تذكارية بارزة عن السور الخارجى، المدخل الرئيسى منها يتوسط الضلع الغربى، أما المدخل الشمالى والجنوبى فيتوسطان صحن الجامع فقط.

وكما يقول كتاب “مساجد مصر وأولياؤها الصالحون”، يعتبر المدخل الرئيسى تحفة معمارية رائعة إذ يبلغ اتساعة 12 مترًا تقريبًا ، ويتوسط المدخل باب معقود يبلغ سعة عقده 3.95 مترًا ومزخرف بصنجات مفصصة، وكان يتركز على عمودين من الرخام فقدا الآن، وعلى جانبى هذا الباب من أسفل يوجد حنيتان مستطيلتان يعلوهما صفان من الدلايات وبداخلهما تجويفان يعلوهما عقد مفصص.

الإعمار

تجدر الإشارة إلى أن قيادة جمهورية كازاخستان في عهد الرئيس الأول نورسلطان نزارباييف، ثم في عهد الرئيس قاسم جومارت توقاييف، حرصا بالتعاون مع وزارة الآثار المصرية على إعادة إعمار هذا الأثر التاريخي العتيق، وقدمت كازاخستان دعمًا ماديًا بلغ 4.5 مليون دولار. 

غير أن الإنجاز الفعلي في إعادة هذا الأثر للحياة تم بتوجيهات مباشرة للرئيس عبدالفتاح السيسي، عقب زيارته إلى كازاخستان، في فبراير ٢٠١٧، وأنفقت مصر من جانبها ما قيمته 11.5 مليون دولار. 

واليوم صار الحلم حقيقة، وتم إعادة إعمار هذا الصرح العظيم، وربما يأتي لزيارته قريبا الرئيس الكازاخي، قاسم جومارت توقاييف.

أبوبكر أبوالمجد https://asiaelyoum.com

صحفي وباحث متخصص في شئون آسيا السياسية والاقتصادية

قد يعجبك أيضاً

المزيد من الكاتب

+ There are no comments

Add yours