كتب- أبوبكر أبوالمجد
القريب من الشأن الكازاخي، لن يكون من الصعب عليه رصد سياسة كازاخستان شديدة المرونة والبراجماتية التي تتبعها منذ استقلالها عام 1991، والتي استطاعت من خلالها حفظ حدودها ومصالحها الخارجية واستقرار أمنها الداخلي، بتوازن دلّ على حكمة الساسة هناك.
سياسة متوازنة
فبين روسيا من جهة، الوريث المعلن للاتحاد السوفيتي، والذي كان مهيمنًا ومسيطرًا على كل مقدرات جمهورية كازاخستان البشرية والاقتصادية لسبعة عقود تقريبًا، والولايات المتحدة وأوروبا من جهة أخرى مطارق الحداد، ولا يكاد الطرفان يتفقان على أمر حتى يختلفا في أمور كثيرة، الأمر الذي كان بإمكانه تغيير بوصلة القيادة الكازاخية نحو الخراب والدمار، لولا براعة القائد “ألباسي” نور سلطان نزارباييف، ومن بعده الرئيس، قاسم جومارت كيميلوفيتش توكاييف، لما لهذين الطرفين من تأثير كبير على العالم سياسيًا واقتصاديًا.
حفظ التوازن والمسافات الكازاخية المتساوية مع روسيا من جهة وأوروبا والولايات المتحدة من جهة أخرى، وسعي كازاخستان للعب دورًا مؤثرًا وملموسًا في محيطها الإقليمي، والإسلامي، والدولي، يهدف إلى إنهاء الصراعات، أو الحد من تأثيراتها السلبية على الشعوب والإنسان في العالم، جعلها دائمًا محل ثقة من الجميع، وينظر لها على أنها دولة محايدة جديرة بالثقة، وقادرة على إنهاء الأزمات بنزاهة وعدالة.
مبادرات
ومبادرات كازاخستان التي تؤهلها لهذه المكانة كثيرة، بدءًا من مؤتمر التفاعل وإجراءات بناء الثقة في آسيا، التي أطلقها نزارباييف، عام 1992، في الدورة 47 للجمعية العامة للأمم المتحدة، بهدف تعزيز أجواء الاستقرار والثقة في جميع أنحاء آسيا، ومرورًا بتخليها عن ترسانتها النووية الضخمة من أجل عالم خال من الأسلحة النووية إلى مبادرة مؤتمر زعماء الأديان العالمية والتقليدية، وغيرها من المبادرات والإسهامات الكازاخية التي تسعى بجد لإنهاء الصراعات وإحياء التكامل بين الدول ليس في آسيا ودول العالم الإسلامي وحسب، وإنما في العالم كله.
أفغانستان
أفغانستان ليست بدعًا من كل هذه المساعي والمبادرات الكازاخية، فلكم حرصت وساهمت كازاخستان في إنهاء الصراع المسلح بها، وقدمت الكثير لاستقرار الدولة، خاصة في شأن تعليم المرأة وتدريب الجيش والشرطة الأفغانية، وإن كانت لا تشاركها مباشرة في حدود جغرافية؛ غير أن دولًا مثل تركمانستان وأوزبكستان والصين تحيط بأفغانستان وتلاصق كازاخستان، يجعلها تهتم كثيرًا بالوضع الداخلي لأفغانستان.
وقبل أيام لا حديث للعالم سوى عن الانسحاب الأمريكي، وسرعة دخول طالبان إلى العاصمة الأفغانية كابل، وتصدرها للمشهد الأفغاني، والقلق الذي يملأ رؤوس الساسة في آسيا الوسطى على وجه الخصوص والعالم بشكل عام.
واشنطن ونور سلطان (عاصمة كازاخستان)، ناقشتا في 13 يونيو الماضي، مستقبل أفغانستان عقب خروج القوات الأمريكية في سبتمبر، وذلك عندما التقى الرئيس قاسم جومارت توكاييف والممثل الأمريكي الخاص لأفغانستان زلماي خليل زاد.
وتعهد خليل زاد بأن واشنطن ونور سلطان ستواصلان العمل “معًا لتعزيز السلام، وفي نفس الوقت للعمل معًا لتوفير مستقبل اقتصادي أفضل ومساعدة شعب أفغانستان”.
وعندما سُئل خليل زاد عن التكهنات الجارية بشأن القواعد العسكرية الأمريكية المحتملة في آسيا الوسطى، والتي يمكن أن تنفذ عمليات مكافحة الإرهاب في أفغانستان، لم ينف ذلك بشكل مباشر كخيار، على الرغم من أنه قال “لست هنا للإعلان عن أي شيء أو للقول إننا توصلنا إلى اتفاق معين مع دولة معينة بشأن خطوات عسكرية معينة في هذا الوقت”.
وأضاف أن الحكومتين ناقشتا “جهود السلام، وجهود التنمية الاقتصادية، والجهود الإنسانية والاحتياجات الأمنية لمساعدة قوات الأمن الأفغانية في الحفاظ على نفسها وإعالة نفسها، وكذلك الاستجابة للتهديدات الإرهابية المحتملة معًا”.
وبحسب مجلة “ديبلومات” الدولية، التي تصدر من واشنطن، فإنه من غير المرجح أن توافق كازاخستان على استضافة منشأة عسكرية أمريكية على أساس دائم نظرًا لعلاقاتها الوثيقة مع كل من الصين وروسيا.
وأضافت المجلة أنه بصرف النظر عن العمل مع واشنطن، تقوم كازاخستان بتنفيذ مبادراتها الخاصة تجاه أفغانستان، مشيرة إلى أن تعليم المرأة الأفغانية هو أحد القضايا الجديرة بالملاحظة، وبفضل برنامج قيمته مليونا يورو أطلقه الاتحاد الأوروبي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي وكازاخستان في عام 2019، تدرس حوالي 50 امرأة أفغانية في جامعات كازاخستان وأوزبكستان.
وبالنسبة لقطاع الدفاع، فقد تم توقيع اتفاقية تعاون بين الحكومتين في ذات الشهر بين مستشار الأمن القومي الأفغاني حمد الله محب ووزير الدفاع الكازاخستاني نورلان يرميكباييف في نور سلطان، وستمهد الوثيقة “الطريق للدعم العسكري المُتبادل عبر مختلف المجالات”، وفقًا لبيان صدر في 18 يونيو عن مكتب مجلس الأمن القومي الأفغاني، وتنطوي على إمكانية “التدريبات المشتركة والتعاون في مجال الطب العسكري، وتحديث المعدات، والدعم اللوجستي والتقني، والتدريب القتالي والتعاون الاستخباراتي العسكري بين البلدين”.
وقالت المجلة إنه لا ينبغي المبالغة في أهمية اتفاقية الدفاع هذه ففي ظل مشاركة القوات الكازاخستانية حاليًا في عمليات السلام التابعة للأمم المتحدة، ولا سيما في لبنان (اليونيفيل)، وفي ظل مشاركتها السابقة في طاجيكستان خلال الحرب الأهلية في التسعينيات وفي عمليات غير قتالية في العراق، فمن غير المرجح أن تسمح نور سلطان للقوات بأن تكون يتم نشرها في منطقة صراع شديدة الخطورة مثل أفغانستان والمشاركة في العمليات القتالية وعليه يكون تدريب وتجهيز القوات الأفغانية هو السيناريو الأكثر احتمالًا.
وفي 14 أغسطس بحث وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن مع نظيره الكازاخي مختار تيلوبردي ونائب رئيس الوزراء إيرالي توجانوف في مكالمة هاتفية الوضع في أفغانستان.
وذكرت وزارة الخارجية الأمريكية – في بيان نشرته عبر موقعها الإلكتروني، أن بلينكن أطلع نظيره الكازاخي على خطط الولايات المتحدة لتقليص وجودها المدني في كابول في ضوء تدهور الوضع الأمني، مع التأكيد على استمرار التزام واشنطن بالحفاظ على علاقة دبلوماسية وأمنية قوية مع حكومة أفغانستان.
هذه المناقشات تدلل على مدى أهمية الدور الكازاخي في سنوات خلت، وفي السنوات المقبلة لضمان أمن واستقرار الوضع الأفغاني.
هذه السياسة شديدة المرونة والبراجماتية التي تمتاز بها كازاخستان لم تمنع، أكان رحمتولين نائب وزير الخارجية الكازاخستاني، من التأكيد قبل يومين وتحديدًا 20 أغسطس الجاري، أن السلطات الكازاخستانية لم تعترف بحركة “طالبان” بعد سيطرتها على معظم الأراضي الأفغانية، والمعابر الحدودية للبلاد.
وقال رحمتولين في مؤتمر صحفي الجمعة “من المعروف أن وزارتنا الخارجية أدلت بتصريح رسمي أمس حول الوضع في أفغانستان تمّ نشره في وسائل إعلامنا، ونواصل في كازاخستان متابعة تطور الأحداث في أفغانستان باهتمام”.
وشدد على أن كازاخستان تؤيد بيان مجلس الأمن الدولي حول ضرورة تشكيل حكومة شاملة وتمثيلية، واحترام حقوق الأقليات العرقية وحقوق المرأة، ومنع تواجد المجموعات التي تمثل خطراً للدول الأخرى، ومراعاة القانون الدولي”.
ورأى أنه “لا يوجد هناك أي بديل للعملية السلمية التي يجريها الأفغان بأنفسهم”، حيث يتعين على الأفغانيين أن يحددوا بأنفسهم أفضل نموذج للدولة والبنية الاجتماعية، اعتماداً على خبرتهم التاريخية والواقعية السياسية والاجتماعية.
وكرر نائب وزير الخارجية الكازخستاني، تأكيده أن “كازاخستان لم تحاول إقامة أي اتصالات سياسية مع حركة طالبان”.
وأمس السبت، التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نظيره الكازاخي قاسم جومارت توكاييف في موسكو، لمناقشة سيطرة حركة طالبان الجارية على أفغانستان.
ودعا بوتين أعضاء منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وبينهم أرمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقيرغيزستان وروسيا وطاجيكستان، إلى الاجتماع يوم الاثنين المقبل من أجل “التأكد من أننا على موقف واحد”.
وبدوره، قال توكاييف إنه يود تنسيق نهج البلدين تجاه الوضع في أفغانستان مع بوتين من أجل “إدارة سياستنا بما يتماشى مع مواقفنا المشتركة”.
واليوم الأحد، ونقلًا عن مكتبه الصحفي اليوم الأحد قال الرئيس الكازاخستاني: “في ظروف توتر الوضع الدولي، يجب أن تكون هيئاتنا الأمنية في حالة عالية من التأهب.. نرى زيادة القلق في مجتمعنا بخصوص الوضع في أفغانستان.. ما يجري في هذا البلد لا يشكل تهديدًا مباشرًا لكازاخستان؛ لكنه بالطبع يشكل خطرًا معينًا.. لذلك يجب أن نتابع عن كثب تطور الوضع ونكون مستعدين للرد على أي تحديات”.
جاء ذلك في كلمة له الأحد خلال مناورات جرت بمركز الحرب والتدريب التابع للحرس الوطني في مدينة ألماتي.
وقال توكاييف إن التطورات الأخيرة التي شهدتها أفغانستان زادت من حدة القلق لدى المجتمع الكازاخي.
وأضاف: “على الرغم من أن الوضع في أفغانستان لا يشكل تهديدًا مباشرا لكازاخستان، إلا أنه يشكل بعض المخاطر”.
وتابع: “لذلك يجب أن نراقب عن كثب مسار الوضع وأن نكون مستعدين للرد بالشكل اللازم على أي تحد”.
فإلى ماذا ستسفر عنه العلاقات الكازاخستانية الأفغانية في قابل الأيام؟ سيتكشف هذا قطعًا بعد اتضاح معالم الحوار الأفغاني الداخلي، وتشكيل الحكومة الأفغانية المقبل؛ لكن ما لا شك فيه أن كازاخستان سيكون لها دور بارز في حفظ استقرار هذا البلد.
+ There are no comments
Add yours