أبوبكر أبوالمجد صحفي مصري وباحث في شؤون آسيا السياسية والاقتصادية
تتقلب الأيام كعادتها بين صباح ومساء.. نهار وليل.. شروق وغروب.. أمل ويأس؛ لكن أصحاب الدم لا يرون هذه التقلبات، ولا يلمسون هذه التغيرات، فالألم النفسي عميق إلى حد يجعلهم لا يرون سوى ذلك السواد الذي يحفره في العيون والأفئدة "إزميل" الذكرى المحزنة.
كلنا قد نتعاطف.. أو نسطر بأقلامنا عبارات المواساة، فما أسهل أن يتكلم ويذرف الدمع من لم يجر عليه حكما بالذبح أو الحرق أو رمي بالرصاص!
وقد تهون هذه المواساة بعضا مما يشعر به أصحاب الدم؛ فما بالك إن لم يحرك من يتسربلون بالإنسانية ساكنًا، ومروا أمام "صوان" العزاء وهم يتغامزون ويضحكون غير مبالين بصراخ الثكالى ودموع اليتامى ووجع الأرامل!
هذا باختصار حال المجتمع الدولي حيال أصحاب الدم الأذربيجاني عند الأرمن الجاثمين ظلما وعدوانًا على أراضي أذربيجان التاريخية التي احتلوها بالتعاطف الديني والوصولية السياسية تحت رعاية الحليف الروسي.
كانت البداية في 12 من أكتوبر عام 1813، والذي تم فيه توقيع معاهدة جولستان بين روسيا وإيران، وضم أقاليم شامشديل ولورو- بامباك وشورايئل، خانيات كنجه وقراباغ وشاكي وشيروان وباكو وقوبا ودربند وطاليش، وداغستان إلى أراضي روسيا.
وفي 26 يونيو من العام 1827، احتل الروس مدينة ناختشفان، ثم قلعة سردارآباد في 20 سبتمبر، ثم قلعة إيرفان في الأول من أكتوبر. وتم منح الجنرال إ. ف. باسكيفيتس قائد الفيلق القوقازي الخاص إسم "غيراف إيريفانسكي" تقديرا لخدماته الخاصة في الاستيلاء على إيرفان.
بنهاية عام 1827 وبداية عام 1828، احتلت الجيوش الروسية مدن أذربيجان الجنوبية تبريز وخوي وأورميه وسالماس وأردبيل، وبحلول يوم العاشر من فبراير عام 1828، وضعت الحرب الروسية الإيرانية أوزارها بتوقيع معاهدة في قرية تركمنتشاي الواقعة على الطريق المؤدي من تبريز إلى طهران، وسميت المعاهدة باسمها، وبموجب هذه المعاهدة ضمت روسيا خانيتي إيرفان وناختشفان الى أراضيها.
التعاطف الديني والرغبة الروسية في زرع الأرمن المسيحيين فوق أراضي يدين غالبية سكانها بالإسلام، دفعت القيصرية الروسية لإصدار مرسوم بإنشاء إقليم أرميني، وجاء في المرسوم الصادر يوم 21 مارس عام 1828: "نأمر بتسمية خانيتي إيرفان وناختشفان اللتين تم إلحاقهما بروسيا من إيران بموجب المعاهدة الموقعة مع إيران إقليما أرمينيا فيما بعد ونقبله لحمايتنا، وسيحصل مجلس الشيوخ الأعلى في حينه على مرسوم حول نظام ذلك الإقليم وإدارته".
فاصل تاريخي ألغى وجود هذا الإقليم الأرميني بدأ عام 1840، حيث تم قضاء إيرفان الذي أنشئ بدلا منه الى أراضي ولاية إيميريتيا الجورجية. عام 1849 أنشئت ولاية إيرفان التي شملت أقضية إيرفان وآليكساندروبول وناختشفان وأوردوباد ونوفو بيازيد (بيازيد الجديد) واستمر وجود هذا الكيان حتى عام 1917.
عقب انسحاب الجيوش الروسية من الأناضول الشرقية في نوفمبر عام 1917، نتيجة الانقلاب الحكومي في روسيا تاركين أسلحتهم وعتادهم للقواد الأرمن، همّ العنصريون الأرمن بتنفيذ مخططهم القديم للتأسيس لدولتهم المزعومة، بتوسيع نطاق المجازر وأعمال الإبادة للأذربيجانيين الذين كانوا ولا زالوا حجر عثرة أمام تحقيق هذا الوهم البغيض "أرمينيا الكبرى".
في 23 أكتوبر عام 1917، وبأمر القائد العام لجبهة قارس، تأسس لواءان أرمينيان مسلحان شكّلا بعد ذلك قاعدة رئيسية لجيش الحكومة الطشناقية.
الأطماع الأرمينية واجهتها تركيا بقوة، ما جعل الأرمن يثأرون من تركيا في صورة الأذربيجانيين ذوي الأغلبية المسلمة.
وبين شهري فبراير ومارس عام 1918، قامت الوحدات الأرمينية المسلحة بتدمير 198 قرية في ولاية إيرفان وحدها أي 32 قرية في قضاء إيرفان و84 قرية في قضاء أوجمؤذن و7 قرى في قضاء نوفو بيازيد و75 قرية في قضاء سورمالي، وأبادوا نحو 135 ألف أذربيجاني في هذه الأقضية.
في ذلك الوقت كان العالم يموج بالأحداث الجسام، والحرب الكونية على أشدها، وعاد الراعي السوفيتي لغنمه الأرمن يحميهم ويوجه تيوسهم نحو من ينطحون ويفرد أجتحته صونًا وحماية، ولم يتأخر العنصريون في استعلال هذه الرعاية الفريدة، والتهام أراضي أذربيجان على بحر دماء تغطي أجساد الأذربيجانيين المحروقة والمبطونة والمغدورة.
وكان اليوم الأخير من مارس 1918، على موعد مع أفظع الجرائم الأرمينية بحق أذربيجان وأبنائها.. وتحت شعار رعاية الثورة البلشيفية الروسية ومكافحة العناصر المناهضة لها، انطلق أبناء يأجوج ومأجوج يأكلون الأخضر ويلتهمون اليابس في العاصمة باكو.
لم يكن ثمة رادع لهؤلاء الفجرة يحول بينهم وبين عشرات الآلاف من الأرواح المسالمة التي أزهقوها، والآثار التي دمروها، والمنازل التي أحرقوها، والمستشفيات التي أبادوها والمساجد التي دنسوها.
من باكو بدأوا مرورًا بالبقية الباقية من مقاطعات أذربيجان ومدنها وقراها في "قراباغ وقوبا وشماخي وزانجازور".
تلك الأحداث الإجرامية التي لم يمكن النظام العالمي جمهورية أذربيجان الديموقراطية الناشئة عام 1918، من استكمال كشف المسؤولين عنها، فظلت حبيسة سجلات التاريخ الذي رعاه شرفاء هذه الأمة، وأصحاب الدم الذين ظلوا حتى اليوم جيلا بعد جيل يتوارثون ثأر ذويهم، حتى عادت للنور شمس أذربيجان مشرقة بعد رحيل المحتل السوفيتي الغاشم عام 1991.
وبالرغم من محاولات الإرهاب الأرمينية المستمرة للأذريين، واستغلالهم رغبة السوفييت في تقسيم شمال القوقاز إلى جمهوريات تابعة له، وارتكاب جرائم الإبادة والتهجير، وتنفيذ مخطط التغيير الديموغرافي لكل أراضي أذربيجان، منذ العام 1920، ومرورا بالأعوام من 1948 حتى 1953، والذي سبقه قرار سوفيتي بتاريخ 23 ديسمبر من العام 1947، بترحيل الفلاحين والسكان الأذربيجانيين من جمهورية أرمينيا السوفيتية الاشتراكية إلى سهل كورا-أراز، التابع لجمهورية أذربيجان، فتم ترحيل 150 ألف آذري من بيوتهم بالقوة خارج أرمينيا.
بالرغم من كل ذلك ظلت مساعي المخلصين الوطنيين الأذربيجانيين من القيادة إلى أصحاب الدم مرورا بشعب يتداعى ألما وسهرا لإخوانهم في الوطن الذين لم ينسيهم ديمومة الألم دماء فقدائهم، ظلت حية تأبى إلا أن توثق لتاريخ 31 مارس 1918، وجرائم الأرمن فيه، كما سعت في السابق لتوثيق بقية الجرائم، منتظرة ذلك اليوم الذي تتحرك فيه منظومة العدالة الدولية لتقتص من مجرمي هذه الحقبة ومرتكبي ورعاة هذه المجزرة.
وكل ما بيد ذوي الأقلام من الباحثين المختصين بحقوق الإنسان، والحالمين بإنفاذ سهم العدالة ليصيب كل باطش ظالم متجبر أن يسطروا تضامنا، ويدونوا توثيقا وتذرف حروفهم الدمع حزنًا ومواساة لذوي المصائب والمظالم.. نحن معكم نترقب إشراق شمس هذا اليوم القادم حتما، فما ضاع حق وراءه مطالب.
+ There are no comments
Add yours