آسيا اليوم
قليلة هي المدن التي تزور أسوارها أول مرة فتشعر أنها كانت تنتظر وصولك. تلقي على خطواتك الأولى عتاباً مشوباً بالحنين وشوقاً محفوفاً بالرضا. هكذا استقبلتني باكو وأنا واحد من مئات حملتهم القافلة إلى هنا ك، غير أني شعرت أنها حيتني وحدي تحية المدن السخية للغرباء المتعبين. على ملامحي مذ دخلتها علامات اندهاش تشبه تلك التي ترتسم على الأوجه عندما يعانقك من لا تعرفه ، ويحبك من لم يلتقِيك ويصفك من لم يرك.
تظل الدهشة حاضرة زمناً طويلاً حتى تنتهي المدينة من تلقينك دروسها الأولى. كيف تمشي على ضفاف بحر قزوين (بحر الخزر) ويبقى قلبك خلف أضلعك لا يجري به ماء البحر ؟ كيف تمر في باكو دون أن تستوقفك كل قلعة بحكاية جديدة لا تعيدها في اليوم التالي؟ كيف تتجول في أسواق البوليفار دون أن يترك كل عطار وبزاز وصائغ في سمعك قولاً لا يفارق ذهنك طيلة النهار لفرط فصاحته وبلاغته وحلاوته؟ أين تجد زهداً كافياً لتوصد باب بيتك كل ليلة في وجه باكو وتنام؟
بلغ ابتهاجي بباكو مبلغاً لم يخفَ على (فضولي ونسيمي ) الذي انشد (سر الحبيب ينبغي ألا يعرفه الا المحب) . شيء من لطف هذه المدينة يتأرجح بين الجلاء والخفاء. أحتاج لأن أصغي طويلاً حتى أعرف ماذا توشوش به باكو في أذن العارف. وكنت أحتاج لذلك. دخلتها مبعثراً فجمعتني، غريباً فآوتني. وكنت على يقين أن نهايتي معها لن تكون كبقية البلاد الأخرى التي طردتني…
يريد الله أن يبتلي السالك حتى يرى طريقه، والعارف حتى يذوق إيمانه ويقلبني الله بين إصبعيه في المكان والزمان حتى أعرف قدر نفسي فلا أعدو عنها، ولكنه بين حين وآخر يسبغ علي من الطاقة الخفية ونعمته السخية كوجودي في باكو هذا العام، لا ضيق ولا هم. في كل ركن مدرسة ترحب بكل علم وتقبل كل مذهب. في كل شارع بيت يستوقفك لتتأمل بنيانه وزينته. في كل بستان أشجار لم أرها من قبل وثمار لم أطعمها قط. في كل شارع سقاؤون يحملون الماء في أكواز مزينة بأجراس تدق دقاً لطيفاً ويسقون ماء بارداً كالثلج. وفي كل حي سوق يباع فيه ما لا يباع في سوق آخر.
في كل مدن العالم التي تملك تاريخا قديما وأمكنة تراثية، يمكنها ان تحافظ على المعالم والحقبة التاريخية بمكان بعيد منعزل عن البناء والعمارات الشاهقة ذات الطراز الحديث ، اولا خوفا عليها من زحف متطلبات المادية المعاصرة ولديمومة التراث وخصوصية القديم حتى يتم الفرز مهما كان الحديث والمعاصر جميلا، ولكن في باكو المدينة القديمة ذات الطابع الشرقي الاسلامي لا تبعد امتارا عن باكو الحديثة بعماراتها الشاهقة ومعالمها المتمثلة بأبراج التي تشبه شعلة النار – حتى انت تستطيع رؤية الابراج وأنت في مرتفعات المدينة القديمة – وبشوارعها الواسعة المكتظة بالمارة والمتبضعين ، فشارع نظامي ومركز التسوق بوليفار التجاري لا يبعد إلا امتار عن اسوار المدينة القديمة، وبمجرد ان تعبر شارع واحد يفصل بين القديم بما يملك من الاثار والتراث والقلاع والمعابد والمباني المسورة والقلاع والقصور والشناشيل المزججة والابراج والمطاعم الشعبية حتى تواجهك المباني الحديثة والمحال التجارية المعاصرة ذات الماركات العالمية، وفي الليل يمكنك ان تستمتع ببهاء الهدوء والسكينة التي تروي حكاية التطور التاريخي لمدينة باكو من جدران قلعة العذراء الذي يمتد انشاؤها للقرن الثاني عشر، وتحدثك المستشرقة (بيرفين افندي ) عن الجمال الذي يحتضن المدينة القديمة في ايام عيد النيروز فسوف تنبهر بالإضاءة الحمراء الواقعة على سطح برج العذراء طيلة ليالي الموسم، ويمكنك في ساعات النهار ان تتجول في قصر الشروانشاهيين وهو اكبر المعالم الاثرية من العهد الشرواني ويقع في وسط المدينة القديمة، ويحتوي المجمع على عدة أبنية من ضمنها القصر الرئاسي والديوان وأضرحة الحكام ومسجد الشاه وضريح السيد يحيى الباكوي وصهريج مائي وبقايا حمام. باكو القديمة ما هي الا متحف يجعلك تنتقل الى الماضي في كل زقاق او مبنى او مطعم، الوجبات والصور والهدايا والمباني واللوحات التشكيلية والحيطان والشرفات والتلاعب بالاخشاب والزجاج كلها لا تتحدث الا عن حضارة عربية واسلامية كانت تحتوي هذا المكان!
ازقة وشناشيل
في ازقة ومبان تشبه ازقة محلة الفضل ببغداد القديمة ويظلل فضاؤها فسيفساء الشناشيل التي تشبه ما موجود في محلتنا التي ولدت فيها من زجاج شبابيك ملونة والتي كانت الفتيات يجلسن يرصدن الطريق والمارة بعيونهن المفتوحة المكحلة بالغنج والدلال والاشتياق !
حتى كنت استرجع ذاكرتي ونحن صغار كنا نجري بسباقات الركض في تلك الازقة او نتستر ملتصقين ونحن مراهقين مع الحبيبة في درابين لا تتسع الا لشخص واحد ! شوارع المدينة القديمة الحجرية والبلاط التي تلمع من شدة نظافتها ، وهي ميزة باكو بانها من انظف المدن التي زرتها بينما يكثر الشحاذون في عواصم العالم، في باكو هناك الكثير من عمال النظافة يكنسون ويرشون الشوارع في النهار والليل.
رمزية علم اذربيجان
الاذربيجانيون يعبرون عن حبهم للوطن والاستقلال برمزية العلم وتعد اذربيجان موطن اكبر سارية علم في العالم ودخلت كتاب غينيس للأرقام القياسية حيث يبلغ مساحته 162 متر مربع ويتكون من الالوان التالية : – الازرق ويرمز للشعب التركي- حيث يقدم نفسه الشعب الاذربيجاني كونه من القومية التركية حتى اللغة هي نفسها عدا ثلاثة حروف مختلفة – الاحمر ويعني التقدم، الاخضر ويعني الاسلام، اما الهلال فهو يرمز للاسلام والنجمة الثمانية هي ترمز للأعراق التركية الأساسية، واينما تذهب في باكو ترى علما كبيرا يرفرف عاليا والوانه زاهية جديدة وكأنهم يبدلونه باستمرار ليكون جديدا . يمكن في المدينة القديمة ان تركب سيارة صديقة البيئة تلف بك الازقة والمتاهات والطرق لتشاهد كل المدينة القديمة، عند خروجنا من الروح والنكهة التاريخية سرعان ما نندمج بمعالم باكو العصرية و يمكننا الدخول فورا في شارع نظامي – اسم الشارع نسبة الى شاعر اذربيجان المشهور نظامي كنجوي- ومدينة كنجه الاذربيجانية هي (مدينة الشعر) وتبعد عن باكو 100كم.
الهوية الوطنية
أحست أذربيجان بأن الخطر الخارجي يهدد قوميتها وهويتها الوطنية خاصة وان البلد يملك مواصفات (الفريسة) من حيث وجود الثروات الوطنية (النفط والغاز) – اكبر احتياطي نفطي في بحر قزوين وانتاج خمس النفط المستخرج من العالم – وله موقع جغرافي مهم – اكبر مدن اقليم القوقاز على بحر قزوين – ويملك مكانة تاريخية ومعنوية متنوعة – مدينة باكو القديمة والاثار الموغلة في القدم والنصوص والمعالم التاريخية – كل هذا جعلها عرضة الى الغزوات الخارجية واحتلال الدول الاخرى لها قديما وحديثا، ولعل وجود الحصون والقلاع في مدينة باكو القديمة كانت دليل على توفير الوسائل الدفاعية لدرء الغزوات الخارجية، واستمر هذا التهديد عبر التاريخ لتتعرض أذربيجان الى مراحل متنوعة من التدخلات ويتجلى ذلك في وجود الحضارات (الزاردشتيه – الساسانية- العربية – الفارسية- العثمانية والروسية) وهو بدوره كون خليط من هذه الثقافات انعكست على مكونات الشعب الاذري وبدلا من ان تضعفها جعلتها منيعة وقوية بفضل التعايش والتسامح فيما بينها، وبوجود النفط والموقع الجغرافي أصبحت في التاريخ الحديث مستهدفة اكثر من الماضي! حتى أن “هتلر” كان يعتقد بأنه سوف يخسر الحرب أن لم يحصل على (نفط باكو)، وأمتدت تلك الاطماع وتزايدت بعد ضعف الاتحاد السوفيتي وانهيار الشيوعية التي كانت توحد جمهوريات اقليم القوقاز تحت راية موحدة، لتنشب الحروب الاقليمية بين تلك الدول ويكون نصيب أذربيجان حربا شرسة نشبتها ارمينيا المدعومة حينذاك بروسيا السوفييتية ، وارسلت جيشها الى باكو في بداية التسعينات للاقتطاع جزء من اراضي اذربيجان لمنحها الى ارمينيا وهي اراضي غنية بالثروات الطبيعية يطلق عليها (قره باغ الجبلية أي ناغورنو قره باغ)، ولكن الجيش الاذربيجاني حرر اراضي الوطن المحتلة نتيجة حرب دامية استمرت 44 يوما عام 2020 ،و كسبت اذربيجان النزاع بالطريق العسكري والسياسي. هذه المخاطر التاريخية والحديثة والمعاصرة، جعلت الشعب الاذري يقف خلف نظامه السياسي الذي يوفر له الحماية من الاطماع الاجنبية ، ويحقق له نوعا من الاستقرار والامن، وتوفير الخدمات. التف الشعب الاذربيجاني منذ سنة 1993 حول رئيسه الملهم القوي (الاب) – حيدر علييف، ومن بعده ابنه الرئيس الحالي – إلهام علييف- من أجل مواجهة الخطر الخارجي.
من يريد ان يتعلم درسا في السياسة والعلاقات الدولية عليه الاطلاع على مدن اقليم القوقاز الجنوبي، حتى تبدو المواقف تجاه تلك الدول والصراع الدائر بين (اذربيجان وارمينيا ) يمثل مفارقات مضحكة، فدولة مثل أذربيجان، دولة مسلمة ذات اغلبية شيعية وتقع بجوار جمهورية ايران الاسلامية (الشيعية) تكون بينهما توتر وعدم ود، بينما تقف ايران الاسلامية الشيعية مع دولة ارمينيا (غير المسلمة) ضد اذربيجان، كما ان تركيا قادة الدول السنية والمعادية للشيعة تقف بشكل قوي مع (اذربيجان الشيعية) ضد ارمينيا ، قد يكون هناك صراع خفي بالنيابة بين ايران وتركيا انعكس على مواقف البلدين مع اذربيجان وارمينيا متجاوزين التطابق والاختلاف الديني والمذهبي ، وهذا يعطي مثالا لنا بان الدول الاقليمية الكبرى تنظر لمصالحها اكثر مما تبحث في الهويات الدينية والمذهبية!
وإذا كانت النتائج لا توضح المواقف فالأسباب ان عرفت يمكن فهم سبب الود المفقود بين اذربيجان وإيران، ففي باكو هناك حركة (الجبهة الشعبية لتحرير أذربيجان الجنوبية) تاريخيا روسيا القيصرية قد منحت إيران جزأ من اذربيجان في معاهدتي (غوليستان 1813 وتركماتشاي 1828) فاللوم لا يقع على ايران فقط بل على روسيا بالرغم من ان العلاقة بين اذربيجان وروسيا (حاليا) وثيقة وهناك تعاون اقتصادي واستثمارات ونسبة كبيرة من الاذريين يعملون في روسيا ،وقد اسهمت اذربيجان في الوساطة لإطفاء التوتر بين تركيا و روسيا، ولكن الحكام والسياسيين يفكرون بمصالحهم والمزاج الشعبي له موقف اخر ، فهناك نواب في اذربيجان يطالبون بتغيير اسم اذربيجان ليكون اذربيجان الشمالية للتذكير بوجود اذربيجان الجنوبية ، وإذا كان عدد نفوس اذربيجان يتجاوز 10 ملايين نسمة حاليا فأن نفوس اذربيجان الجنوبية في ايران اكثر من 20 مليون نسمة.
لماذا هذا الكتاب؟
يضيء هذا الكتاب على قضية تاريخية شكلت أساس نزاع عميق بين آذربيجان وأرمينيا، لم تتبين معالم نهايته السعيدة بعد. شاء مؤلف الكتاب الذي زار اذربيجان اكثر من مرة واطلع وشاهد وثائق مهمة عن هذا النزاع ، ان يقدم وثيقة شاملة تؤرخ لهذه القضية، وترسم لها استراتيجية معرفية تكشف الكثير من الغموض والتعقيد اللذين لازماها.
يكشف هذا الكتاب استناداً إلى المصادر التي ترجع للحقب التاريخية القديمة، وإلى العصور الوسطى والتاريخ الحديث والمعاصر، أسباب ظهور هذا الصراع، ثم يبيِّن بالوثائق والمستندات ملكية أراضي قره باغ الجبلية طيلة الأحقاب المتعاقبة من تاريخ آذربيجان. كما يدرس التحولات الديموغرافية، ونشوء المقاومة المسلحة لتحرير قره باغ الجبلية، هذا فضلاً عن استقراء مسار الحوار الحالي برعاية مجموعة مينسك التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، ناهيك عن مواقف المنظمات الدولية حيال الوضع القائم في هذا الإقليم، كما تظهر عبر تصريحاتها وقراراتها.
يتيح هذا الكتاب للقارئ الولوج إلى قلب مسألة إقليم “قره باغ” واستكشاف أسباب وآثار الصراع. كما يساعد كل من يصبو إلى قراءة موضوعية للإشكالية التي سماها التاريخ وعلم السياسة المعاصر بـ “صراع قره باغ الجبلية بين أرمينيا وأذربيجان”.
وبالطبع فإن الصياغة الرشيقة للحكاية التاريخية لإقليم قره باغ تجعله أقرب الى الرواية التسجيلية منه إلى النصوص الجافة التي غالباً ما تتسم به المدونات والوثائق التاريخية. ولذلك فسوف يساعد القارئ العربي على فهم الكثير من الحقائق حول قضية الإقليم.
مما جاء في مباحث الكتاب، أن تاريخ جنوب القوقاز ينطوي على أهمية جيو -ستراتيجية وحضارية تنتمي إلى كبريات الأحداث في تاريخ العالم. وعلى ما هو معلوم فإن إمبراطوريات الرومان والبارثيين والبيزنطيين والساسانيين، وكذلك الخلافة العربية، ناهيك عن الصفويين والعثمانيين، بذلوا كل المحاولات من أجل السيطرة على منطقة القوقاز. وكان توقيع معاهدة كوراكتشاي يوم 14أيار/ مايو 1805 القاضي بوضع خانية قره باغ بسكانها الأصليين الأذربيجانيين تحت الوصاية الروسية منعرجاً رئيسياً في مصير القوقاز. كما جعلت معاهدة غلستان الموقعة بعد الحرب الروسية ـ الفارسية الأولى من أراضي داغستان، جورجيا، أبخازيا وكذلك خانات باكو، كنجه، شروان، دربند، قوبا وطاليش، تابعة للسيادة الروسية. ووقتئذ، كانت هذه الأراضي في معظمها مسكونة من طرف أعراق مسلمة، قسم كبير منها من عنصر تركي أذربيجاني. أما الأرمن فقد كانوا قلة قليلة، ولم يظهروا بشكل بارز إلا بعد خمسة عشر سنة أي عقب الحرب الروسية ـ الفارسية الثانية التي وقعت ما بين عامي 1826 و1828.
تشير اغلب الدراسات التي اطلعت عليها إلى أن الصراع على قره باغ الجبلية القائم بين أرمينيا وأذربيجان عولج في الأدبيات العلمية والجامعية. فضلاً عن الكثير من الأبحاث التي كرست له تعبر عن وجهات نظر متباينة جداً، بل وحتى متناقضة تماماً بالنظر إلى الظروف التي أدت إلى اندلاع صراع عسكري طويل الأمد بين الدولتين.
هذا الكتاب الحاضر بين أيدي القراء يعود إلى مصادر مختلفة ساعدني بالاطلاع عليها اصدقاء احباء اذكر منهم ( كمال قاسيموف في مركز سام للدراسات الاستراتيجية ، وشيخعلي علييف رئيس القسم العربي في وكالة اذرتاج للانباء، والباحثة بيرفين افندي من كلية الاستشراق في باكو ، والسفير الدكتور اميل رحيموف، وغيرهم) .
ويمكن للقارئ استخلاص النتائج بنفسه وتكوين رأي انطلاقاً من تفكيره الخاص ، حيث لقد قام المؤلف بجهد استثنائي لتظهير بحثه هذا ، فقد أخذ بنظر الاعتبار أهمية مراعاة قواعد البحث العلمي في التحليل والعرض وبيان أوجه القضية ، مع التركيز على المصادر الأرمينية والأجنبية لأجل إبراز بطلان الأفكار المتداولة حالياً في الأوساط العلمية، التي بمقتضاها دأب العديد من المراجع القديمة، وكذا باحثون أوروبيون وروس مختصصون في هذه المنطقة، يؤكدون الطرح الأرميني للتاريخ ويبررون المطالب الأرمينية حيال الأراضي التابعة لأذربيجان ، ومن اللة التوفيق.
+ There are no comments
Add yours