أبوبكر أبوالمجد كاتب صحفي وباحث في شئون آسيا السياسية والاقتصادية
وُسد الأمر لغير أهله، وبات أئمة الناس جهالها، والرويبضة هم من يتحدثون في شئون العامة. انشغلت الأمة بنفسها، واتبع كل فرد فيها لهواه، فأضله الله على علم، فويلٌ لأمة ضل أفرادها، فخرج من بينهم من يقود مسيرتها.
ففي بلدٍ عظيمٍ كمصر، والتي حملت ما حملت من التاريخ والكرامات، وأنجبت ما أنجبت من علماء وخبراء وأدباء وزعماء على مرّ تاريخها الضارب في عمر هذا الكون بآلاف السنين، يصل بها الحال إلى هذا التشرذم المجتمعي الخطير، على نحو يجعلها مؤهلة للتمزق أكثر من أي وقت مضى.
وعجب العجاب أن الشعب يرفض تخيل أن مصر يمكن أن تكون كما سوريا والعراق كما يردد على أسماعهم لتخويفهم وإرهابهم من أخطار ربما لا يراها أحد غير السلطة الحاكمة؛ وإنّ نفس السلطة قد تأتيهم بما يجعل هذا المآل المحزن هو الأقرب حدوثًا، ثم يستبعدون هذه النهاية، وكأنّ السوريين والعراقيين كانوا يعلمون أنّهم سيكونوا على هذا الحال قبل 13 عامًا خلت.
الشعوب العربية تطارد الحقيقة ولا تبحث عنها، ولو أرادوا الحقيقة لعلموا، أنّ لكل نهاية بداية، فاليهود لعنوا بما قالوا، وغضب الله عليهم بما صنعوا، ونحن كنا خير أمة بما قدمنا، فإن أتينا بما يجعل اللعنة أو الغضب يحلان علينا، فلماذا إذًا نستبعدهما؟!
أنتأله على الله؟ أنحكم نحن في ملك الله بمراده أم بمرادنا؟
نحن نقطع طريق الشر لنشتري النهايات السيئة بأفعالنا؛ لكن المذهل أننا نكون دوما بانتظار نهاية سعيدة!
وبالعودة إلى مصر، فالنظام الهادف لتطبيق دولة القانون كما يزعم، يمضي برؤيةٍ واحدةٍ وفي خطٍ واحدٍ لا يتغير أو ينحرف قليلًا عنها ليتفادي بعض الصخور في طريقه، ومثله نخبة خرجت من رحم تلك العقود التي تمّ فيها تجريف العقول، وتنكيس القلوب، وطمس القيم.
مصر تحيا أزهى عصور ضلال النخبة، فكثيرٌ من نخبتها نحسبهم من الشرفاء؛ لكنهم أيضًا من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
هذه النخبة التي تواجه سلطة “غشيمة”، تطبق ما تقول أنّه القانون، في أي وقت وأي مكان ومع أي جماعة، دونما اعتبار لما يعرف في المجتمعات الناهضة، بالمواءمات الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية، هي أيضًا تخطئ حين تتخذ مسارًا واحدًا في تهذيبها، أو مواجهة قراراتها وتصرفاتها الحمقاء.
فالدولة الغبية كثيرًا لا تدرك أنّ أيّ قرار صائب، لو تم تطبيقه في الوقت أو المكان الخطأ، هو خطأ. وأي قرارٍ من شأنه أن يصنع فتنة، حتى لو حماه القانون وأظله الدستور، فدرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة.
وعلى أي حال، فأصحاب السلطات التنفيذية في بلاد العالم الثالث كلها لا تملك أي مرونة في تنفيذ ما تراه صائبًا، حتى لو أدركت ما قلنا، وهي فاشلة حتى في تسويق صواب قرارها؛ لأنّها في الغالب لا ترى غير قوتها، وأنّ هذه القوة، بحسب رؤيتها، كفيلة بفرض ما تراه صالحًا؛ لأنّها في الغالب تكون رؤية فرد لا يراجعه أحد، اللهم إلا من باب الشكليات، والتظاهر بأنّ الحاكم لا ينفرد برأي.
واستعراض قرارات السلطة الخاطئة أمرٌ يطول معه الحديث؛ لكن أزمة نقابة الصحفيين الحالية، هي إحدى أبرز صور تعسف السلطة في تنفيذ ما تراه قانونيًا، كما أنّها إحدى أبرز صور ضلال النخبة.
فلو سألت أين حمدين صباحي الصحفي والمرشح الرئاسي السابق، وتياره الشعبي، من أزمة النقابة، ستجده هو هو موقف مسئولي السلطة المصرية، الصمت ورفض التعليق.
مثل صباحي صحفيون كثر ينتظرون انحرافًا للميزان ناحية فريق حتى يتخذ قراره، ويشكل كلمات بيانه بحسب آخر المستجدات، ويحدد تحركاته بالظهور أو الاختفاء حتى تنقضي الأزمة.
بحسب تقديري، الصحفيون هم نخبة النخبة، أو هكذا يفترض؛ لأنّهم من يمتلكون الخبرات التراكمية المتولدة من رحم التجربة والتحاور مع جميع أطياف المجتمع.
الصحفيون هم المنوط بهم أن يعلموا، ويبينوا، ويعطوا القدوة والمثل للمجتمع بأسره، من أعلى رأس الهرم وحتى أسفله.
الصحفيون في رأيي هم أفقه الناس، أو هكذا يفترض أن يكونوا، وهذا الفقه والإدراك يضع عليهم أعباءً مضافة، خاصة إذا كانت الأزمة تخصهم.
فبعيدًا عن مسالب الصحفيين الثقافية والأخلاقية وحتى المهنية، وانقسامهم فيما بينهم على المعروف في قانون الصحافة والزمالة بالضرورة، غير أنّهم يظلون وسيظلون محط أنظار المجتمع كله.
وباعتباري ابنًا لهذه المهنة، وهذه النخبة ولا فخر، فإني أنصح بتفويت الفرصة على السلطة الغاشمة، وضرب أروع المثل في كيفية إدارة الأزمة مع السلطة.
أنصح أن نمرر هذه الأزمة بما يحفظ كرامة الصحفيين ونقابتهم؛ ولكن دون أن تأخذنا الحماسة، ولا حتى يأخذنا الخيال، أنّ هذه السلطة سيؤثر عليها اعتصامًا طال أو قصر، وتنكيس علم، أو حتى حجب أخبار أو احتجاب صحف.
والحلول كثيرة، لو قلتها قبل يومين لاختلفت مع نطيرتها اليوم، أما وإننا واقعيون، فالحل الآن إن طالت الاستفزازات الأمنية، وأرى أنّها ستطول، وطال صمت مؤسسة الرئاسة، وأرى أنّه سيطول، وظلّ شحن محبي الشرطة ونسائها الطاهرات العفيفات ليستفزوا الجماعة الصحفية بهتافاتهم التغبيشية وشتائمهم الدنية، وفشل سفراء النقابة المتفاوضون مع الدولة، والذين أرشح أن يكونوا (ضياء رشوان- ياسر رزق- إبراهيم عيسى- وائل الإبراشي)، ففي هذه الحال أرجو ألا نطيل الأزمة، ونستغل الحضور القوي للصحفيين اليوم وهكذا أتوقعه، أو في أي يوم لاحق لا بأس، شريطة ألا تطول المدة التي تساعد في تعميق الإساءة لمصر دوليًا، ونسارع بتقديم اعتذار للأمة على ما آل له الأمر، ونقرر الانسحاب من طرفٍ واحدٍ لأجل الوطن.
هذا التصرف قد يراه البعض تنازلًا؛ لكني أراه التصرف غير المتوقع من النخبة الوطنية الوحيدة المسئولة في هذا الوطن في تلك اللحظة، والقادرة على أن تشعر بحجم ما يعانيه.
وهذا التصرف لن يأتي في سياقٍ منقطعٍ بل يجب ألّا ينقطع عما سأقوله الآن، وهو اعتذارٌ للأمة أيضًا عن ثقة الجماعة الصحفية المفرطة بعد 30 يونيو 2013 في السلطة، إلى الحد الذي جعلها موضع اتهام من قطاع عريض من أبناء مصر بمحاباة السلطة على حساب قضايا وأزمات الشعب المصري.
ثم الإشارة إلى أن الجماعة الصحفية تحملت هذه الاتهامات، وقبلت أن ترى بعيون قيادات الدولة، وسعت في تعظيم إنشاءات إلى حد الإنجازات بل والمعجزات، إيمانًا بوطنيتهم وضرورة منح الأمل للمصريين في غدٍ أفضل.
لكن اليوم، وبعد أن جرت الأمور كما جرت من قبل وزارة الداخلية ضد الجماعة الصحفية، وحصار النقابة، ومساعي إسقاط هيبة الصحفيين من عيون المصريين من خلال نسوة مستأجرة، وبعض الهمج، وتوجيه ألفاظ خارجة ضد الصحفيين، واعتداء بعضهم بالحجارة على مبنى النقابة، وصمت مسئولي الدولة، بحيث لم تخرج مؤسسة الرئاسة بيانًا ولا مجلس الوزراء يستنكران فيه ما حدث، ولذا فإنّ الجماعة الصحفية اختارت أن تتجرع السم لأجل الوطن، وتنسحب من هذه المعركة حفاظًا على سمعة مصر الدولية، وحتى لا يتخذ مسئولو الدولة موقفنا ذريعة لتبرير فشل سابق وآخر لاحق، من شأنه أن يضر بالمواطنين الذين لا هم لنا غير الإسهام معهم ولهم في بناء وطن مدني ديمقراطي حر.
ثم تعلن النقابة عن أنّها تلتحف بالشعب في كل خطوة تخطوها، وأنّ رسالة أبناء المهنة هي الدفاع عن قضايا المكلومين من أبنائه، وأنّ النقابة تعترف بأنّها أساءت التقدير حين منحت ثقتها المفرطة في القيادة الحالية.
وفي الأخير.. يجب أن يكون لدى الصحفيين أنفسهم رغبة في تنفيذ أهم بند في هذا البيان، وهو المتعلق بالناس، وليدركوا حتى الموالين للسلطة، بأنّ الدولة لا تمتلك غير رؤية أحادية لتطبيق ما تراه صوابًا، وإنّ قيادةً على هذا النحو لا يرجى خيرها.
لكن إذا تحركت مؤسسة الرئاسة، أو نجحت المفاوضات السياسية بين بعض كبار الصحفيين وقيادات الدولة في الخروج من الأزمة بصورة تحفظ للكيان النقابي والصحفيين هيبتهم، ولا أظنه يحدث، فبها ونعمت، وكفى الله مصروشعبها السوء وأهله.
+ There are no comments
Add yours