عبدالوهاب بدرخان كاتب وصحفي لبناني
كان إحجام القادة العرب عن حضور القمة الاقتصادية في بيروت غير مسبوق في سجل القمم. حصل أن تدبّروا ترتيباتهم اللوجستية في عواصم غير مجهّزة ولم يغيبوا، حصل أن معظمهم قاطع قمة استثنائية في الدار البيضاء لأسباب سياسية ولأن الدعوة والتنظيم أجريا على عجل، وحصل أن تغيّب العديد منهم عن قمة دمشق لخلافات مع رئيس النظام.
لكن حضور ثمانية أو عشرة منهم كان يكفي لاعتبار القمة «ناجحة»، لأن الهدف هو أن يلتقي العدد الأكبر. أما أن تقتصر تلبية دعوة الرئيس المضيف على اثنين منهم فهذا يعني أن ثمّة مشكلة قد لا تتعلّق بالرئيس نفسه أو بالبلد، بل بمَن يهيمن على البلد أو يحكمه فعلياً.
بقمّة أو من دون القمّة، العرب يحبّون لبنان ويودّون المجيء الى بيروت، فما الذي منعهم؟ الجواب عند النظام السوري والنظام الإيراني وحزب الله وحركة «أمل» وغيرهم من الأتباع في الداخل.
كانت عناصر مما تسمّى «ألوية الصدر» أهانت علم ليبيا ووجّهت تهديدات علنية لأعضاء الوفد الليبي إنْ هبطوا في مطار بيروت وتعهّدت روافدها في المطار منعهم من الدخول، كما منعت ليبيين آخرين. اعتقدت «الألوية» هذه أن العواصم العربية الأخرى تنظر بإعجاب وتعاطف الى نزعها العلم الليبي ورفع علم حركة «أمل» مكانه، أو أنها ستوافق على هذه «البلطجة» كخطوة ضاغطة ومشروعة لجلاء الحقيقة في إقدام معمر القذافي قبل أربعين عاماً على إخفاء «ضيفه» السيد موسى الصدر، مؤسس حركة «أمل»، خلال وجوده في طرابلس.
الأسوأ أن من حرّك هذه «الألوية» ظنّ أن العرب نسوا أن ليبيا تمثّلت في قمة بيروت العادية عام 2002 لأن نظام «الوصاية» السوري آنذاك حظّر ازعاج وفدها، أو أن العرب لم يدركوا أنه جرى هذه المرّة توظيف «قضية تغييب الصدر» انتقاماً من تغييب سوريا النظام عن القمة.
الإساءة كانت للبنان أولاً وأخيراً، لصورة البلد وسمعته، للدولة ورموزها ومؤسساتها، وللجهد الكبير الذي بذله مخلصون لبنانيون وعرب لتوفير أفضل تنظيم للمؤتمر، خصوصاً أن القمم الاقتصادية تتميّز عادةً باستنادها الى خطط وبرامج أعدّها اختصاصيون، وبتركيزها على ملفات تهم المجتمعات العربية بشكل مباشر، خلافاً للقمم العادية التي تهتمّ بالسياسات العليا وترمي الى اظهار درجةٍ ما من التشارك والتضامن في المواقف من القضايا السياسية، بمعزلٍ عن درجة الالتزام بالقرارات أو التوصيات.
هذه الإساءة المتعمّدة، إرضاءً للنظام السوري، لم تنلْ فقط من توافق داخلي هشّ على «النأي بالنفس» عن الخلافات والنزاعات العربية بل أرادت أيضاً أن تقول للعرب أن لبنان لم يعد «وطناً سيّداً حرّاً مستقلاً»، كما ينص عليه دستوره، ولا «عربي الهوية والانتماء» أو عضواً مؤسساً وعاملاً في الجامعة العربية ومنظمة الأمم المتحدة وملتزماً مواثيقهما، وإنما أصبح بيدقاً تتلاعب به دمشق وطهران وتواصلان النأي به عن عروبته وعالميته.
هذا قدر أي بلد تهيمن عليه ميليشيات فترهب شعبه ودولته وتحتجزهما رهائن عند أسيادها.
أراد النظام السوري، كذلك النظام الإيراني، أن يقولا للعرب أن لبنان الذين تعرفونه تغيّر، كما تغيّرت سوريا، وقبلها العراق، وبعدها اليمن – جزئيّاً – الى أن يُحسم الصراع فيه.
أمكن إذاً لعرب القمة أن يذهبوا ليشاهدوا بأعينهم معالم التغيير. لم تكن هناك اعتبارات أمنية شديدة تمنع الحضور، لكن أحداً لا يريد تعريض سلامة أي ملك أو رئيس لأهواء قتلة تديرهم أجهزة استخبارات لا تقيم وزناً لأي قوانين أو معاهدات دولية.
المجازفة غير مضمونة وبالتالي غير واردة. وذكرى اغتيال الرئيس رفيق الحريري والاغتيالات التي تلتها لا تزال في الأذهان. حصل رئيس النظام السوري على ما يريد، فعدم حضوره لا بد أن يمنع حضور الآخرين الذين يرتجي اليوم حضورهم لا إلى بيروت بل إلى دمشق لإحياء «شرعية» عمل ما لا يُعمل كي يحطمها ويفقدها.
وقد حصل نظام الملالي أيضاً على ما يريد من قمة تُعقد في احدى «عواصمه» الأربع، لكن تُعقد بالصيغة التي أرادها، أي في غياب القادة، فلم يحرّك سوى زمرة من البلطجيين على سبيل العيّنة لتُطلق الرسائل التي يبتغيها. واستطراداً نفّذ «حزب الله» وحركة «أمل» الأجندة التي كلّفا بها.
لجأ إعلام هذين الحزبين، أي الإعلام الأسدي والإيراني، الى نظرية «المؤامرة» لعرض أسباب خفض مستوى التمثيل العربي في قمة عربية.
فبالنسبة إليهم لا علاقة لذلك بالوقائع التي فرضتها الميليشيات على الداخل اللبناني بل بـ «تحذيرات» أمريكية مفتعلة ومرتبطة بالسياسة التي تتّبعها واشنطن ضد ايران وحزب الله وتوظّفها لإخافة العرب من المجيء الى بيروت.
عدا ذلك فالوضع عادي وطبيعي، بدليل أن الموقف اللبناني الرسمي لم يحمل أي ادانة لواقعة إهانة العلم الليبي ووقف على الحياد بين الذين أقدموا عليها وبين السلطة الحالية في طرابلس التي لا ذنب لها في «قضية الصدر» ولم تتوصّل الى أدلة أو حقائق قاطعة لإيضاح مصير الإمام المغيّب.
والوضع طبيعي بدليل أن السلطة اللبنانية لم تفكّر بأن الجهة الى أرسلت بلطجييها تستحق المساءلة القانونية، ولم تجد في تهديدات أمن المطار للوفود الليبية ما يمثّل استخفافاً بالدولة.
والوضع عادي بدليل أن أحد مكوّنات المجتمع يعطّل ولادة الحكومة وبلغ استهتاره حدّ اعتبار أن أي «حكومة وفاق وطني» لا بدّ أن تكون تحت وطأة سلاحه غير الشرعي وبإمرة مرجعيته الإيرانية. والوضع عادي أخيراً بدليل أن «الحزب» المسيطر بالسلاح والترهيب والعقلية الميليشياوية مصنّفٌ ارهابياً ومُطاردٌ دولياً وواقعٌ تحت عقوبات معلنة، أمريكية وعربية، وغير معلنة في معظم أنحاء العالم.
مشهد لبنان من الخارج أكثر وضوحاً من أن تتمكّن المساومات اليومية من تغطيته لتأمين استمرار التعايش بين أبناء الطوائف كافةً.
بل أكثر وضوحاً من أن يتمكّن وزير مثل جبران باسيل وأشباهه من تمويهه أو تجميله لتمرير مصالحهم الخاصة مع حليفهم «حزب الله» المنبوذ دولياً، مثله مثل نظامَي دمشق وطهران.
وحتى أكثر وضوحاً من أن يستطيع أحد إخفاء عوامل التدهور المتسارع في الوضعين المالي والاقتصادي، إذ بات «حزب الله» يرى أن اضطرار ايران للعيش في ظل «اقتصاد العقوبات» يجب أن يسري على لبنان ما دام «الحزب» نفسه يتعرّض للعقوبات، وإذا كانت «خصوصية لبنان» لا تزال تجلب له بعض التفهّم الدولي وبعض المعونات الخارجية فمن شأن «الحزب» أن يحقّق أكبر استفادةٍ منها لمواصلة تنفيذ أجنداته.
في ظنّ نظامي دمشق وطهران أن اللعب بالورقة اللبنانية رابحٌ ايجاباً وسلباً، سواء في إظهارهما ممسكَين بمقاليد الحلّ والربط وبمقوّمات الاستقرار اللبناني أو في احتمالات تحريك هذه الورقة امريكيًا وعربياً، وقد لوّحا على سبيل المثال بأنه كانت لديهما خيارات عدّة كتأجيل القمة الاقتصادية أو منع انعقادها أو دفعها الى فشل كارثي.
الواقع أن لا شيء يُكسب هنا، وأنها مجرد مرحلة عربدة إيرانية وأسدية للحؤول دون أي استقرار أو ازدهار أو تعافٍ لا تكون للنظامين مصلحة فيها. صحيح أن طبيعتهما الوحشية ماضية في التهام الروح اللبنانية، وفي دفع العرب الى خطأ الابتعاد عن لبنان والمساهمة ولو غير المتعمّدة في تهميشه، إلا أن بشار الأسد وايران قابضان على «ورقة» كاشفة وفضّاحة، وأهمّ ما تكشفه حقيقة أن نظامَين مفلسَين يسيطران على دولة مفلسة ويزيدان في إفقارها، فلا هما قادران على انتشالها إذا وقعت ولا هي قادرة على انقاذهما من مآزقهما.
ففي غمرة التشويش على القمة الاقتصادية أوهم النظامان الحكم اللبناني بجدوى المتاجرة بالنازحين وبيع اعادتهم قسراً مقابل حصة في سوق إعادة الإعمار في سوريا.
فبعدما دمّر الاسديون والايرانيون العمران والاقتصاد يبحثون اليوم عمّن يموّل الإعمار ليكرّسا على الأرض ما خطّطاه للتغيير الديموغرافي الطائفي.
المصدر: صحيفة الحياة
+ There are no comments
Add yours