أذربيجان.. إحدى أبرز الدول الإسلامية في أوروبا، ويُعدّ الشعب الأّذري من أعرق الشعوب وأقربها في عاداته وتقاليده إلى الشعوب العربية.
وقد ساهم هذا البلد العريق بحضارته وثقافته مساهمات فعالة في نهضة العالم وبالأخص العالم العربي والإسلامي، والفضل في ذلك يرجع إلى شخصيات بارزة، مثل نورالدين زنكي البطل المحنك والأسرة الأيوبية وعلى رأسها صلاح الدين الأيوبي وأسد الدين شيركوه، الذين أذهلوا العالم بشجاعتهم وسياستهم، وأصبحت مضرب المثل في المروءة والبسالة، واعترف لهم بذلك عدوهم قبل صديقهم، وأشار إلى ذلك “ابن الأثير” في الكامل وصاحب الوفيات ابن خلكان.
لكن الدولة صاحبة هذا التاريخ الإسلامي والحضاري والثقافي العريق والمتنوع، والتي يتجاوز تعداد سكانها التسعة ملايين نسمة، وتصل نسبة الذين يدينون فيها بالإسلام إلى 95%، ويتحدثون اللغة (الأذرية)، ينقسمون في مذاهبهم بين سنة وشيعة، وهذه كانت ولا تزال كارثة أو نارًا تحت الرماد في العديد من الدول الإسلامية، وليست العراق وسوريا واليمن ولبنان منا ببعيد.
غير أنّ هذه الفجوة أو تلك الكارثة أو النار لن تجد لها أثرًا يُذكر في أذربيجان، ويأتي شهر رمضان ليبرز مدى التماثل والوحدة بين أبناء الشعب الواحد، حتى أنه يستحيل أن تلمح اختلافًا سواءًا في العادات أو العبادات أو المعاملات فيما بينهم.
وأما عن العادات، فالأذريون يستعدون لاستقبال شهر رمضان على اختلاف مذاهبهم بنفس الطريقة، وقبل حلوله بأيام.
حيث تبدأ الاستعدادات لاستقبال هذا الشهر قبل حلوله بأيام، فينظمون سباقات الخيل، وتبدأ الأسر في تبادل التهاني خلال هذه الاحتفالات الشعبية.
وفي هذا الشهر الكريم، يحرص المسلمون الأذربيجانيون على التمسك بفضائله، ويرعون حرمته ومكانته، وهم يتحلون بصفات خاصة في هذا الشهر المبارك كالصبر، والابتعاد عن الرذائل، وتناسي أسباب الخلاف بينهم، وغير ذلك مما يجري بين الناس في حياتهم اليومية.
ومن ناحية أخرى تحرص كل أسرة أذربيجانية على أن تقدم أطباقًا من الطعام على سبيل الهدية للأسر المجاورة، أو أن تقدمها كإحسان للفقراء، وذوي الحاجة والفاقة من الأقارب والأصدقاء وغيرهم.
وعند الجلوس على مائدة طعام في بيت أذربيجاني في شهر رمضان، يُلاحظ دومًا وجود طبق زائد عن عدد أفراد الأسرة؛ وذلك تحسبًا لوصول أي ضيف عند الإفطار.
وعند الإفطار يتناول الأذريون الماء الفاتر (ليس بالبارد ولا بالساخن)، ولقيمات بسيطة ثم يذهبون إلى الصلاة، ويتوافدون على المساجد سنة وشيعة معًا لا فرق بينهم في مواعيد إفطار أو صلاة أو صيام.
وتجدر الإشار إلى أنّ شعب أذربيجان المسلم قد اشتهر بعادة تخصه في شهر رمضان، لا يشاركه فيها أحد، وهي عادة (النذور)، فإذا كان أحدهم قد قطع على نفسه نذرًا عندما كان واقعًا في أزمة ما، فإنه يوفي بنذره خلال هذا الشهر الكريم، سواء بزيادة العبادة، أو بكثرة الدعاء، أو بنذر صيام أيام أخرى بعد رمضان، كما يقدم للفقراء مما وهبه الله من الخير، وأسبغ عليه من النعم.
ومنذ الفتح الإسلامي والشعب الأّذري على عهده في المحافظة على الشعائر الدينية بما فيها الاحتفال بالأعياد الإسلامية، ومنها عيد الفطر، وقد عرف الشعب الأذربيجاني هذا العيد بقدوم الفتح الإسلامي، وظل محافظًا عليه رغم ما عاناه من اعتداءات قامت بها الحكومات السوفيتية الشيوعية المتعاقبة، من قتل للشيوخ والأئمة، أو لكل من يظهر مظاهر التدين الإسلامي، حتى أنّ بعضهم هرب إلى بلدان أخرى؛ غير أن عزيمة هذا الشعب الباسل لم تلين، ولم يتخل عن مبادئه وحقوقه وآداب وتعاليم وقيم دينه الحنيف.
وتختلف مظاهر الاحتفال في هذا البلد العريق عن غيرها من الدول الإسلامية، فتبدأ بأن يذهب المسلمون إلى المساجد لأداء صلاة العيد ومعهم شيخهم ومفتيهم، فيؤم الناس في صلاة العيد شيخ الإسلام حاجي (الحاج) الله شكر باشازاده، ثم يلقي خطبة العيد، وبعد انتهاء الخطبة يتبادل الحاضرون التهاني.
كما يتوجه رئيس جمهورية أذربيجان لتهنئة الشعب عامة والمسلمين خاصة، ثم يقوم الناس بصلة الأرحام وزيارة أهليهم وذويهم بعضهم بعضاً.
ومن عادات الأذريين أيضاً في هذا اليوم زيارة المقابر، وقبلها تقوم السيدات بطبخ الحلاوة والخبز المحشو، فيأخذونها معهم ويضعونها على مقامات الأولياء، وعند عودتهم يأكلون منها ويوزعون على الجيران والفقراء على سبيل التبرك، ويقرأون سورة “يس” على أمواتهم.
وفي مساء يوم العيد تقوم النساء بطبخ بعض الأطعمة اللذيذة المتنوعة مثل كباب وقَرا، وهذا الطعام يتكون من اللحم وأبي فروة والمشمش والزبيب وغيره، ويوضع على الأرز المطبوخ يسمى “بلاو”.
هذه الأفعال جميعها يأتي بها المسلمون الأذريون على اختلاف مذاهبهم كما أشرنا، الأمر الذي يدل على شدة الترابط فيما بينهم، لا سيما في المواسم الدينية كالعيدين.
جدير بالذكر أن الرئيس إلهام علييف كان قد أصدر قرارًا قبل عدة سنوات بأن تكون إجازة العيد يومين بدلا من يوم واحد، تقديرًا لهذه العادات الإسلامية الضاربة في عمق كيان الشعب الأذري، ورغبةً في إدخال السعادة والسرور إلى قلوبهم.
وقد ألقى علييف كلمة موجزة حملت في كلماتها القصيرة ليست التهاني وحسب للشعب الأذري، وإنما بشريات المستقبل الزاهر في ظل وحدة هذا الشعب المثالية، وجاء فيها:
“أبناء الوطن الأعزاء!
أهنئكم من صميم القلب بمناسبة حلول عيد الفطر المبارك وأبلغ كلا منكم أطيب أمنياتي وتبريكاتي.
إن شهر رمضان المبارك الذي أنزل فيه الكتاب المبين القرآن الكريم، يحث الناس على تضافر جهودهم للإكثار من أعمال الخير والبر والإحسان وإشاعة روح الإخاء والمحبة والتسامح والاستقرار، ويظهر انتصار الأعمال الصالحة والصفاء الأخلاقي”.
وأضاف الرئيس في كلمته:
“إن مواطنينا المؤمنين يؤدون بمهامهم الروحية وفرائضهم الدينية بتفان خلال أيام هذا العيد الذي يغذي قلوب الناس وروحهم بالحكمة الإلهية ويتقاسمون فرحة الثراء المعنوي والكمال الأخلاقي”.
وفي ختامها قال علييف:
“يتمنى الناس في كل أنحاء بلادنا في هذه الأيام دوام الاستقرار لشعبنا ويقدمون الصلوات لأرواح شهدائنا الخالدة. وأسأل الله تعالى أن يتقبل دعواتكم وأمنياتكم ونواياكم الطيبة، ويعيد هذه الأيام المقدسة على شعبنا العزيز بمزيد من المغفرة والرحمة”.
واستطرد قائلًا:
“الأخوات والإخوة الأعزاء!
إن الاحتفال بهذا العيد المبارك على المستوى الرسمي يدل على مدى تقييمنا لمبادئ التعددية الثقافية والتسامح، ونعلن اليوم للعالم مرة أخرى أننا نعيش القيم البشرية العامة قدر ما نلتزم بالقيم الوطنية في قلوبنا، ونعتبر التنوع الديني والقومي السائد فينا كغناء وحدتنا المعنوية”.
كما لم ينس علييف أبناء شعبه بالخارج فوجه لهم التهنئة قائلًا:
“على ذلك، فأبلغ كل مواطنينا وأبناء شعبنا القاطنين خارج بلادنا خالص تحياتي وتبريكاتي بهذه المناسبة الجليلة متمنيا لأسركم الرفاهية والسعادة والبركة والرزق الوافر”.
بهذه الكلمات الموجزة للرئيس علييف، والتي رسمت صورة معبرة عن التنوع الثقافي لهذا الشعب، وأن هذا التنوع هو مصدر الثراء داخل المجتمع الأذري كما أشار الرئيس، يمكننا أن نختم، مشيرين أن دولة كأذربيجان بهذا الترابط وهذه الوحدة، مع وجود هذا الاختلاف والتنوع الفكري والمعرفي والمذهبي جديرة حقًا أن تكون مصدر إلهام وإشعاع لمجتمعاتنا الإسلامية، وأن تكون دعامة منتدى الحوار بين الثقافات لما لها من تجربة ملموسة وواقع شاهد بالنجاح.
+ There are no comments
Add yours