من النيجر إلى السنغال مرورا بمالي والكاميرون، كلّ الوسائل متاحة أمام المسلمين خلال شهر رمضان الكريم، من أجل التصدّي لساعات الصيام الطويلة، خصوصا بالنسبة لمن يقضون كامل وقتهم بلا عمل ليمتصّ الملل من أنفسهم.. ألعاب تمضي عكس عقارب الساعة أملا في الإطاحة بمنسوب الملل وتحدّي ساعات الجوع والعطش الطويلة.
ألعاب شعبية تقليدية وطرائف ولقاءات مختلفة أو حتى في تبادل النكت أو تجاذب أطراف الحديث بشكل عادي دون الوقوع في الغيبة، وقد يحدث وأن يستنبطوا لعبا سرعان ما يقع تعميمها.
في النيجر، تقول إحدى الروايات الموروثة المتداولة في البلاد أنّ أشخاصا جاؤوا يبلغون رجلا مفتونا بحبّ “الدارا”، وهي لعبة شعبية شهيرة حتى اليوم في تلك الأنحاء، بأنّ منزله يحترق، غير أنّ الرجل لم ينتبه لذلك من كثرة انسجامه في اللعب، حتى أنه كان يحرّك البيادق في الحفر الصغيرة أمامه وهو يردّد: “الظاهر أنّ هناك حريقا في بيتي”.
اللعبة تدخل ضمن التقاليد النيجرية، ويصطلح على تسميتها “دارا” في لغة الهوسا المحلية، كما أنّ لعبها يتطلّب الكثير من الوقت يرافقه التركيز واليقظة والانتباه، وهي من الألعاب التي يواظب مسلمو النيجر ممن يمثّلون أكثر من 98% من إجمالي سكاني قدره 17 مليون نسمة، بحسب أرقام شبه رسمية، على ممارستها كلّ يوم خلال شهر رمضان الكريم.
مجموعات صغيرة تضمّ لاعبين اثنين أو أكثر، تفترش الأرض تحت ظلّ شجرة أو جدار مرتفع، لنبش التراب في شكل حفر صغيرة تتراءى من بعيد كنقاط سوداء قاتمة على رقعة بيضاء اللون، وتستخدم الحجارة وأحيانا الأجزاء الخارجية للمكسّرات، بيادق يتنافسون في تحريكها بغية تحقيق فوز يحدث وأن يمضي أحدهم يوما بأكمله دون الظفر به.
وبما أنّ الشهر الفضيل يتزامن هذا العام أيضا مع فصل الصيف الحار، حيث ترتفع درجات الحرارة في البلاد لتبلغ الـ 40 درجة، فإنّ هؤلاء الصائمين لا يجدون بدّا من الإنزواء في مكان بعيد عن الشمس اتقاء لحرّها، وبحثا عن وسيلة تسلية لتمضية الوقت.
“اليوم، أبلغ من العمر 60 عاما”، يقول عمرو غاربا مبتسما، “تعلّمت لعبة الدارا من أسلافي، وأجد أنها رائعة ومثيرة للإهتمام، حتى أنكّ وبمجرّد أن تجرّبها لمرّة واحدة، فإنّك لن تتمكّن من الاستغناء عنها أبدا بعد ذلك، والساعات ستنقضي منسابة بسرعة وفي غفلة منك”.
وأضاف للأناضول أنه “خلال شهر رمضان، فإنّ اللعبة تنسينا مشقة الصيام، وخصوصا العطش، والأهمّ هو أنّها تبعدنا عن بعض الممارسات السيئة مثل الغيبة”.
مشهد لا يختلف في عمقه عمّا يحدث خلال الشهر الكريم، في عدد من البلدان الإفريقية الأخرى التي تضمّ مسلمين. ففي السوق المركزية بمدينة دوالا، العاصمة الإقتصادية للكاميرون، تعالت ضحكات أحمدو البالغ من العمر 26 عاما وثلّة من أصدقائه.. كان الحديث يدور بينهم بلغة الهوسا المحلية، وأجسادهم تنحني إلى الأرض من شدّة الضحك.
وبدا أحمدو، وهو بائع أحذية بالسوق حازما وهو يقول لمراسل الأناضول إنّ “الصلاة هي وحدها، بالنسبة لنا نحن الأقلية المسلمة (20 % من إجمالي سكاني يقدّر بـ 20 مليون نسمة/ بيانات رسمية) في البلاد، ما يمكنها مساعدتنا خلال الشهر الكريم”، مضيفا أنّ “الطرائف تمثّل وسيلة للترفيه أيضا، وتجعلني أضحك بجنون وأنسى العطش”.
عبدو بيميل، كاميروني في الـ 53 من عمره، كان يمسك بسبحة لامعة، وشفتاه تتحرّكان بلا انقطاع، قبل أن يمسك لحيته البيضاء بطرف يده وهو يؤكّد للأناضول من جانبه، أنّ الصلاة مفيدة جداً للصائمين، لافتاً إلى أن مسلمي البلاد عادة ما يجتمعون عقب أداء الفرائض لرواية ذكريات طفولتهم وتبادل الطرائف والنكات.
أمّا مسلمو السنغال والذين يشكّلون أغلبية تناهز الـ95 % من السكان، فقد اختاروا لعبة النرد والتي يصطلحون على تسميتها محليا بـ”الليدو”، مسكّنا في مواجهة ساعات الصيام الطويلة. نرد مرفوق ببيادق بألوان فاقعة(الأخضر والأصفر والأحمر والأزرق)، يختار كل لاعب لونه المفضل، قبل رمي النرد الصغير المنقوش على جوانبه دوائر صغيرة سوداء تشكّل أعدادا مختلفة، والعدد المتحصّل عليه يعتبر حصيلة اللاعب. ويتداول المتنافسون، سواء كانوا اثنين أو أربعة، رمي النرد إلى حين بلوغ سقف محدّد من النقاط.
لعبة “شيّقة” بالنسبة لمعظم من التقتهم “الأناضول” في أنحاء مختلفة من العاصمة داكار.. سحر ما يستقطب الصائمين إلى لعبها. راما لايي، الخمسينية، قالت: “منذ مراهقتي، أغرمت بالليدو، وأدمنت لعبها خصوصا في شهر رمضان.. إنها لعبة سهلة ومتاحة للجميع، كما أنّ السنغاليين عموما يعشقونها حدّ الهوس”.
لعبة تلاقي إقبالا شعبيا لافتا، وهذا ما يفسّر غرق السوق السنغالية، مع اقتراب شهر الصيام من كلّ عام، بـ “الليدو” المستورد من بلدان المنطقة، وخصوصا من “كوت ديفوار” و”نيجيريا”، بحسب ماتار سايي، أحد باعة هذه اللعبة، والذي قال للأناضول إنّه “تمكّن، في غضون أسبوعين، من بيع نحو 100 لوحة منها”.
سعرها المنخفض والذي يتراوح من 500 فرنك إفريقي(ما يعادل 0.85 دولار) إلى ألفي فرنك(3.43 دولار)، بحسب المصدر نفسه، هو ما يجعلها الوسيلة المفضّلة لقضاء الوقت بالنسبة لمسلمي هذا البلد في الشهر الفضيل.
وفي جزر القمر التي تعدّ 98% من سكانها من المسلمين، فإنّ للرجال مهام “خاصة” خلال الشهر الكريم. ففي الوقت الذي تقضي فيه النساء وقتهن في حياكة وتطريز القبعات التقليدية المسماة محليا بـ”الكوفية”، يتجمّع الرجال في الأماكن العامة لمناقشة المواضيع الساخنة والمستجدّات الهامة في البلاد. وهذا العام، ازدانت قائمة “الملفات” المتداولة بحدث كروي هام وهو كأس الأمم الأوروبية “يورو 2016″، والذي انطلقت فعالياته بفرنسا الجمعة الماضي.
أما الشباب الأقلّ سنا، فيفضّلون المقاهي، لكن ليس لاحتساء المشروبات، وإنما للعب “الأوالي”، وهي لعبة شهيرة في البلاد، وتتمثّل في تحريك حبات على قطعة من الخشب تضمّ 12 حفرة، إضافة إلى لعبة “الدومينو”.
وفي مالي، يحرص مسلموها البالغين حوالي 92 % من إجمالي السكان، على اللعب أيضا عكس عقارب الساعة لقهر الوقت.. وبما أنه لا توجد لعبة محدّدة يقبل عليها الماليون خلال رمضان، فقد اختاروا توليفة من وسائل الترفيه على طرقهم الخاصة. أماكن يلتقون فيها، ويتجاذبون أطراف الحديث.. لا يهمّ ما هو الموضوع أو ما تصنيفه، المهمّ هو أن يمنحهم مساحة واسعة من التعبير والردّ والتعقيب، وأحيانا قد لا يستقيم النقاش مع جوهر الموضوع المتناول، ومع ذلك لا أحد يهتمّ، فقد يلهم ذلك الخروج عن النصّ آخرين بمواضيع أخرى تضمن تواصل جلسات لا تقطعها إلا مواعيد الصلاة.
ففي تلك الجموع الصغيرة، تنتفي جميع معايير التصنيف، بل تغيب حتى الأسماء بما أن الكثيرين لا يعرفون بعضهم البعض.. موظفون وعمال، فقراء وأغنياء، لا شيء يهمّ هنا سوى أنهم صائمون، وأنهم يودّون تمضية الوقت، فيقررون بعد استنفاذ الحديث عن المستجدات وحتى عن الذكريات، اللجوء إلى لعب الورق أو “الدارا”.. هدنة مؤقتة سرعان ما يقطعها سريان النشاط في الأجسام المتهالكة على الأرض من جديد، لتتعالى من جديد النقاشات حول شتى المواضيع، وقد يحدث وأن تحتدّ، قبل أن يقطعها صوت المؤذن وهو ينادي لصلاة المغرب، معلنا انقضاء يوم آخر من الصيام في غفلة من تلك الحشود التي استغرقها الحديث لساعات طويلة.
ومع أنّ الهدف يظلّ تحدّي الملل وساعات اليوم الطويلة، إلا أن تلك الحلقات المتجمعة للنقاش أو اللعب، تستبطن أبعادا إنسانية وتضامنية عميقة. فخلال حديثهم، يتفطّن المحسنون إلى عجز بعض الناس عن ابتياع احتياجاتهم من طعام الإفطار، فيقومون على الفور بدعوتهم لتقاسم الطعام.
وعلاوة على اللعب والحديث، يفضّل عدد من الصائمين الأفارقة الاعتكاف في المساجد بين صلاتي الظهر والعصر، وحضور الحلقات الدينية وقراءة القرآن لساعات طويلة قبل العودة إلى المنزل عقب أداء صلاة المغرب.
+ There are no comments
Add yours