إبراهيم أبوكيلة كاتب صحفي مصري
سحب رمادية متلاحقة.. تدفعها رياح أمشير العاصفة.. الأرض موحلة.. سكبت السماء ماءها.. سبعة ايام متواصلة.. نوة الكرم.. أنهي بها طوبة أيامه.. برك مياه المطر تملأ الشوارع.. أمشي في مدق صنعته أقدام الكبار.. بجوار حوائط البيوت.. استند عليها حتى لا انزلق.. على الأرض الموحلة.. الرياح الشديدة.. تدفع جسدي الصغير.. و برودة الجو تجمد أطرافي وأذناي.. أنفي يرشح.. وعيناي تتأذيان من ذلك الصقيع .
في مثل هذا الوقت من النهار تتوسط الشمس السماء.. لكن أين هي؟ لم أرها منذ الصباح.. لم ترسل أشعتها الدافئة.. حجبتها تلك الغيوم الكالحة.. عائد أنا إلى البيت بعد يوم دراسي قصير.. اليوم الخميس الثاني عشر من فبراير 1970.. الخامس من ذي الحجة 1389.. الخامس من أمشير 1686.. كنت في الصف الرابع الابتدائي.. استأنفنا الدراسة منذ أيام بعد إجازة نصف العام.
في المدرسة.. في البيت.. وفي الشارع.. نسمع حكايات بطولات وملاحم جيشنا على ضفتي قناة السويس وهجماته في العمق الإسرائيلي سواء بالقوات الخاصة “الصاعقة والمظلات” أو بالقصف المدفعي لمواقع العدو على الضفة الشرقية للقناة.. بداية من معركة رأس العش أول يولية 1967.. بعد أيام من هزيمة يونية .. مرورًا بإغراق المدمرة إيلات بالقرب من بور سعيد وتفجير ميناء إيلات على خليج العقبة.. وعملية لسان بور توفيق الأولى وعملية لسان التمساح.. بطولات إبراهيم الرفاعي الخارقة ومجموعته 39 “الأشباح” خلف خطوط العدو.. ضربات فرق المشاة شرق القناة.. وانتهاءً بعملية الشلوفة التي أوجعت العدو الإسرائيلي وأفقدته توازنه وصوابه.
وصلت إلى البيت.. فتحت لي أمي الباب.. ألقيت حقيبة كتبي.. هممت باستبدال ملابسي.. قالت لي أمي انتظر.. لا تستبدل ملابسك.. إذهب إلى “الكوبانية”.. خذ “كوبون” بعشرة مليمات.. أحضر لنا جاز “كيروسين”.. كانت معظم السلع تصرف إما بالكوبونات.. أو عن طريق بطاقات التموين.. حتى القماش الكستور.. كان لكل فرد حصة معينة.. وكانت الكوبونات كطوابع البريد ولكنها أكبر قليلا.. تناولت “الجركن ” البلاستيكي الذي سأحضر فيه الجاز.. أعطتني أمي الكوبون على مضض.. توجهت إلى الكوبانية في هذا الطقس السئ والأرض الموحلة.
تقع “الكوبانية” على مسافة قريبة خلف دارنا.. يوجد بها كيروسين وسولار فقط.. لا يوجد بها بنزين.. فلم تكن قريتنا قد عرفت السيارات بعد سوى عدة سيارات أجرة لنقل الركاب للقرى المجاورة.
خرجت من دارنا.. انعطفت يمينا بعد بيت عمي.. سلكت الزقاق الضيق إلى براح واسع تنمو فيه أعشاب الشتاء.. في نهاية البراح تقع الكوبانية.. وبعد صراع مع المياه المختلطة بالطين فوق الأعشاب ومقاومة الرياح الشديدة وصلت “الكوبانية”.. بائع الجاز رجل طويل أسود البشرة اسمه سيد أو مرسي لا أتذكر.. يفتح صنبور كبير.. يصب الجاز في وعاء من الصاج ويفرغه في “جراكن” الموجودين.. يتحدث معهم في أسى.. ضربوا مصنع أبوزعبل في الليل.. ناس كتير ماتت.. اختلطت دماؤهم بالكعك الذي أحضره بعضهم ليتذوقه زملائهم.. باقي خمسة أيام على عيد الأضحى.. لفت نظرى كلمة أبو زعبل.. أسمعها لأول مرة.. اعطيته الكوبون.. صب لي الجاز.. وعدت إلى الدار.
قلت لأمي إن بائع الجاز يقول أنهم ضربوا مصنع أبو زعبل.. هزت رأسها بالايجاب وقالت: “صحيح يا ابني قبل الفجر قامت إسرائيل بغارة جوية على مصنع في منطقة أبو زعبل كان به 1300 عامل وقت الغارة استشهد أكثر من 80 عاملا وأصيب عشرات العمال والمدنيين واحترق المصنع”.
عبرت سرية من الفرقة 19 مشاة.. القناة عند منطقة الشلوفة.. بالقرب من السويس.. صباح يوم 11 فبراير 1970.. قبل ساعات من غارة أبو زعبل الغادرة. . ونفذوا واحدة من اقوى العمليات الحربية شرق القناة قبل حرب أكتوبر 1973.. وقتلوا وأصابوا أكثر من 20 جنديا إسرائيليا و أسروا جنديين إسرائيليين.. ودمروا دبابة وثلاث عربات مدرعة.. وعادوا إلى غرب القناة بالأسيرين دون خسائر فيما بينهم.. وكان لهذه العملية صدى كبير وفضيحة لإسرائيل التي جن جنونها فارتكبت جريمتها البشعة على مصنع الشركة الأهلية للصناعات المعدنية في أبو زعبل.
عقب هزيمة يونية سكن زلزال النكسة.. تمالك الشعب نفسه.. وامتص صدمة الانكسار.. وأفاق من كابوس العار.. أعادت وقفته الرائعة التوازن للقيادة السياسية والعسكرية.. فكرست جهودها لإزالة آثار الهزيمة واستفادت من أخطاء الماضي.. و تماسك الجيش الذي لم يختبر.. ولم يدخل في معركة.. نسبت له الهزيمة.. ولحقت به وهو لا ذنب له فيها.. لم يتقبلها.. أعاد تنظيم نفسه وأخلص في التدريب وأقسم ألا يهنأ العدو على أرضنا السليبة، وأن يحول فرحه إلى جحيم لا يطيقه .. فكانت حرب الاستنزاف كما أسمتها مصر.. أو حرب الألف يوم كما أسمتها إسرائيل والتي جعلت العدو الصهيوني.. يئن تحت وطأة الضربات الموجعة والأليمة المتلاحقة التي وجهها أبطالنا إلى العدو في العمق.. وأدت إلى تغيير جذري في خططه لمواجهة هذا الاستنزاف.. وقرر إدخال الطيران.. ذراعه الطويلة في المعركة.. خاصة أنه لا يجد مقاومة تذكر في الجو.. بعد أن تم تدمير الطيران المصري يوم 5 يونيو 1967.. وعدم اكتمال حائط الصواريخ ومنظومة الدفاع الجوي المصري بعد.
عمدت إسرائيل إلى شن هجمات في العمق المصري لتخفيف الضغط عن قواتها في سيناء وإضعاف الروح المعنوية للداخل المصري.. ليضغط على قيادته السياسية لقبول مبادرة روجرز.. لوقف الاستنزاف والجلوس على مائدة التفاوض ولكن ذلك أتى باثر عكسي.. إذ ازداد التفاف الشعب المصري حول قيادته السياسية وازدادت الضربات الموجعة على كافة خطوط المواجهة و خلف خطوط العدو في العمق.
+ There are no comments
Add yours