في مجتمع تتبع أكثريته الطرق الصوفية، لا تزال كثير من الأسر المحافظة تفضل إرسال أبنائها إلى “الخلاوي”، تلك المدارس التقليدية المتخصصة في تحفيظ القرآن، ودراسة الفقه عوضًا عن المدارس النظامية.
ورغم تمدد هذه “الخلاوي” في كل مدن وأرياف السودان، إلا أنها لا تنتشر في أي رقعة وتتمتع بسمعة ومكانة كتلك المنتشرة في أقليم دارفور غربي البلاد.
في الخطاب الشعبي عند عموم السودانيين فإن دارفور هي أرض “التقابة”، وهي نار توقد من الحطب في تلك الخلاوي، تعين الطلاب على حفظ آياتهم القرآنية بضيائها حيث لا تصلهم في الغالب شبكة كهرباء، وتدفئهم كذلك في ليالي الشتاء القارصة.
ورغم اندلاع حرب أهلية طاحنة في هذا الإقليم منذ العام 2003 إلا أن كثيرا من تلك الخلاوي لا تزال تعمل ويتوافد إليها آلاف الطلاب من مختلف أنحاء السودان.
وتتفاوت نسبة مرتادي الخلاوي، وقد تزيد عن ألف طالب.
في الإجازات الفصلية، لا سيما فصل الصيف، عادة ما تكتظ هذه الخلاوي بطلاب المدارس النظامية مثل خلوة “الإحسان” التي يديرها الشيخ عبد اللطيف عبد الرحمن في مدينة الفاشر كبرى مدن دارفور.
يقيم بشكل دائم 30 طالبا من مختلف أنحاء البلاد في خلوة “الإحسان” التي يقول شيخها عبد الرحمن للأناضول إن “الحرب رغم تأثيراتها لم تطفئ نار التقابة في دارفور”.
تتفاوت الفترة اللازمة لحفظ القرآن من طالب لآخر ما بين 2 – 4، أعوام علاوة على دراسة الفقه كما يحدثنا الطالب محمود بشير المنحدر من شرق السودان.
وبشكل يومي يلتزم الطلاب بجدول صارم يبدأ من الثلث الأخير من الليل والذي يطلق عليه اسم “الدغشية” تتخلله فترات راحة قبل أن ينتهي بعد صلاة العشاء وفقا لشيخ الخلوة.
خلال هذا الجدول اليومي يكتب الطلاب عددًا محددًا من الآيات القرانية في ألواح خشبية، ومن ثم يبدأون بحفظه مع التجويد قبل تسميعه للشيخ في نهاية اليوم ليبدأ اليوم الجديد بآيات جديدة.
وشأنها شأن أغلب الخلاوي، يمول كل مصاريف الخلوة رجل أعمال من مدينة الفاشر مثلما مول الشيخ سليمان عبد الله تشييد خلوة بجهد شعبي في معسكر “أبو شوك” للنازحين في الضاحية الشمالية لمدينة الفاشر.
لكن الدراسة في الخلوة لا تشمل الإقامة الدائمة حيث كل طلابها من معسكر النازحين وبعضم يلتحق بالخلوة بالتزامن مع دراسته في المدارس النظامية.
وتقتصر الدراسة في خلوة عبد الله التي أطلق عليها اسم “أم الخير” على فترتين صباحا ومساءً ويزيد عدد طلابها عن 300 طالب تتراوح أعمارهم في الغالب ما بين 5 إلى 10 سنوات.
وخلفا للخلاوي التي يقيم فيها الطلاب الأكبر سنًا بشكل دائم فإن الجدول الدراسي أقل ضغطا في خلوة “أم الخير” حيث يحفظ الطلاب صغار السن ما تيسر لهم من أجزاء القرآن مع تعليمهم العبادات من صلاة وغيرها طبقا للشيخ سليمان.
يقول أحمد يعقوب أحد سكان المعسكر الذي يزيد قاطنوه عن 100 ألف “مع تغير نمط الحياة فإن غالبية الأسر باتت تميل إلى إرسال أبنائها إلى المدارس لكنها تحرص أيضا على أن يقضوا إجازاتهم في حفظ القرآن بالخلاوي لتربيتهم على قيم دينهم”.
ومع تطور حركة المجتمع وانتشار المدارس لم تعد الخلاوي هي مصدر التعليم الأساسي كما كان عليه الحال منذ عقود طويلة.
وخلال العقدين الماضيين انتشرت في السودان، خصوصا العاصمة الخرطوم “المدارس القرآنية” التي تخلط ما بين الدراسة النظامية ودارسة القرآن والفقه، بدعم من حكومة الرئيس عمر البشير ذات المرجعية الإسلامية.
وفي العام 1990 أسست حكومة البشير جامعة “القرآن الكريم” التي تتيح للطلاب الذين يحفظون القرآن بالكامل ولم يتلقوا تعليم نظامي بالدراسة فيها لكن في كليات نظرية فقط مثل الاقتصاد والإدارة والاجتماع واللغات.
بالنسبة ليعقوب فإن الخلاوي الآن لم تعد تستقبل آلاف الطلاب كما كان عليه الأمر قبل عقود، لكنها “ستحتفظ بمكانتها” في مجتمع لا يزال الدين “دافعه الرئيس”.
+ There are no comments
Add yours