لم يختلف لون البحر القاتم عن ملامح الألم في عيون الواقفين الصامتين، الباكية نفوسهم على من لا يعرفون مصيره من ذويهم ضحايا قارب الهجرة غير الشرعية، الذي غرق قبالة سواحل مدينة رشيد، شمالي مصر، أمس الأول الأربعاء، وعلى متنه مئات الأشخاص الذين أُعلن عن غرق ١٦٢ منهم حتى مساء اليوم.
ومع اقتراب عقارب الساعة من الثانية عشر ونصف بعد منتصف ليل أمس الخميس، وصلت سيارة مسرعة إلى المكان الذي تفوح منه رائحة الموت، وترجّل منها رجل خمسيني، متوجها ناحية شاطئ البحر، ودموعه تنهمر على وجنتيه باكيا ابنه علاء (16 عاما)، الذي فضل الهجرة عبر البحر بحثا عن حياة مختلفة في أوروبا.
وبينما هو في حالة بكاء شديد، يروي الوالد ويدعى “أحمد”، لمراسل الأناضول حكاية نجله قائلاً “ابني ركب السفينة مع صديق له، عاد صاحبه وابني لم يرجع (..) حاولت منعه من السفر إلا أنه رفض بشدة، فعرضت عليه العيش في الكويت مع شقيق له يقيم هناك، لكنه أصر على التوجه إلى إيطاليا، كما فعل شقيق له من قبل. وياريته (ليته) ما سافر”.
حكاية أخرى حملها القارب المنكوب، لفتى يدعى “عبده غزال”، أكمل الربيع الـ 17 من عمره قبل شهر، وصديقه المقرب “هيثم” (15 عاما)، من سكان منطقة “الجزيرة الخضراء” الواقعة في الجانب الموازي لمدينة رشيد، وتتبع محافظة كفر الشيخ (دلتا النيل/شمال)، اللذين قررا تحسين أوضاعهم المالية وتأمين مصدر دخل يلبي احتياجاتهم، إلا أن القدر لم يشأ إلاّ أن يفارقا الحياة ويجمعهم الموت في عرض البحر، بحسب أحد ذويهم الذي فضل عدم ذكر اسمه.
ويضيف “رحل عبده وهيثم على تلك السفينة من أجل البحث عن فرصة عمل في دول أوروبا، لكنهما لم يغادرا المياه الإقليمية للبلاد، فسقطا غرقى إلى جوار العشرات ممن كانوا على نفس القارب”.
وفي وصفه لمشهد عائلات ضحايا القارب، يقول محمد حسين، وهو شرطي يخدم أمام مستشفى رشيد، يقول للأناضول “يومين صعبين جدا، بكاء وصريخ لا ينقطع أمام المستشفى إلا أن أكثر ما أفجعنا هو فقدان 10 أشخاص من عائلة واحدة كان ذويهم يبحثون عن جثثهم منذ غرق المركب”.
ويضيف الشرطي “حسين”، “الحاج أحمد كان يبحث على مدار يومين دون جدوى عن جثامين أفراد عائلته وهم: اثنين من الأبناء، وكلاهما كان على متن السفينة الغارقة ومعهما زوجاتهما و6 أطفال”.
وأمام المستشفى يفترش الحاج جمال، الأرض باكيًا وإلى جانبه زوجته التي لا تتوقف عن الصراخ والعويل. وبعد عناء التقط مراسل الأناضول منه بعض الكلمات بصوت متحشرج، فهو يفقد ابنه “علي” وأبنائه الثلاثة (أحفاد الحاج جمال)، وزوجته “غادة” وشقيقها.
ويقول للأناضول “بقالنا (منذ) يومين ولا حس ولا خبر (لا نعرف شيئًا) عن ابني. لم نتعرف إلا على جثتي زوجته وابنته”.
ويتابع “ياما (لطالما) نصحته، إلاّ أن الكثير من أبناء قريتنا بالشرقية (دلتا النيل/ شمال) سافروا إلى إيطاليا ومعهم أولادهم لسهولة الحصول على الإقامة ورجعوا بفلوس (أموال) كتيرة أغوت أهل البلد، وابني تخطى الثلاثين عاما، ومنذ عام وهو يمر بضائقة مالية، وعندما رفضت سفره قال لي: يا أبويا (أبي) أنا كده كده ميت يبقى أسافر أحسن”.
وتلتقط طرف الحديث زوجته وسط صرخات وعويل قائلة: “أنا كتبت شهادة وفاة ابني وعياله (أسرته)، عندما مضيت على الشيكات حتى يسافر. لم أقدر على منعه بعد أن عجز على توفير مصاريف أسرته منذ أكثر من سنة”.
وتروي السيدة الخمسينية للأناضول تفاصيل سفر نجلها وعائلته قائلة: “دفع ابني 25 ألف جنيه (ألفين و800 دولار)، وأنا وقعت على شيكات بقيمة 30 ألف جنيه (3 آلاف و300 دولار) لحين تسديدها بعد وصوله إلى إيطاليا. وهناك أسر (ممن على متن القارب) دفعت أكثر من 50 ألف جنيه (5.600 دولار) لتتمكن من السفر، وذلك على حسب عدد أفراد الأسرة”.
وحسب أحد الأهالي، تتفاوت أرقام المبالغ المودعة من المواطنين لأصحاب قوارب الهجرة بين 20 ألف جنيه (ألفين و200 دولار) إلى 100 ألف جنيه مصري (11 ألف دولار)، حسب عدد الأفراد.
“محمد فتحي” أحد الناجين من الموت، يقول لمراسل الأناضول “إن القارب الذي غرق أمام سواحل رشيد، مخصص للصيد، يتكون من ثلاثة طوابق: الطابق الأول يضم مصريين وجنسيات أخرى، وبه حوالي 200 شخص، والبدروم (قاع القارب) فيحوي وحده على حوالي 200 شخص، إضافة إلى عشرات آخرين كانوا أعلى سطح القارب”.
ويضيف فتحي: “الكارثة أن البدروم مغلق من الخارج وبحاجة إلى من يفتحه، ولن يخرج منه أي شخص إلا بمساعدة من الخارج”.
وحول أسباب الغرق، يتابع فتحي: “كان هناك سفينتان تحملان هذا العدد من راغبي الهجرة، إلا أنه حدث خلاف بين صاحب إحداهما مع منظمي الرحلة فرفض إكمال الرحلة، وقام بإنزال الركاب الذين معه على متن القارب الآخر”.
ومضى قائلا: “بعد تأزم الخلاف بين الطرفين، قام قائد المركب بإنزالنا، ومع بدء محاولة النقل، حدث خلاف بين الأفارقة وملاك المركب حيث تم وضعهم داخل الطبقة السفلية، ونتيجة للتدافع الذي وقع بينهم، بدأت المركب تميل ناحية اليمين تارة وناحية الشمال تارة أخرى، ومع ثقل وزن الحمولة غرق القارب من مقدمته وحينها كنت على السطح، وقمت بالقفز مبتعدًا عن المركب وسط ذهول وتدافع العشرات”.
ويوضح : “مكثت داخل المياه لمدة ثلاث ساعات حتى جاءت أولى مراكب الصيد التي انتشلتني مع بقية الناجين”.
وعن إمكانيه أن يخوض التجربة مرة ثانية، يقول فتحي: “أنا شفت (رأيت) الموت بعيني.. مستحيل أن أقدم على ذلك مرة أخرى”.
مصدر أمني من مباحث “رشيد” التي وقع في نطاقها حادث الغرق، قال للأناضول، رافضا ذكر اسمه، لكونه غير مخول بالحديث لوسائل الإعلام، إن “المتهمين الأربعة الذين تم القبض عليهم، أكدوا أن عددا من كان على متن المركب وقت غرقها يصل إلى 650 شخص، أكثر من نصفهم من المصريين”.
ويضيف المصدر ذاته: “ليس لدينا قائمة كاملة لمن كانوا على القارب، إلا أننا استطعنا تسجيل أسماء 450 شخصا، منهم الـ 163 ناج، وكذلك من تم التعرف على جثته، وهم 57 جثة، إلى جانب حصر أسماء ضحايا عن طريق ذويهم”.
ويشير أنه “من بين الـ 450 اسمًا هناك 110 من الأفارقة الذي تم التعرف عليهم من خلال 34 أفريقيًا نجوا من الغرق، وما زال هناك حوالي 200 اسم من ضمن الضحايا لا نعلم بياناتهم، والأقرب أن يكونوا من الأفارقة الذين ليس لديهم أقارب من الناجين أو الباحثين عن ذويهم”.
ومساء اليوم الجمعة، ارتفع عدد ضحايا المركب إلى 162، وفق تصريحات صحفية، للمتحدث الرسمي باسم محافظة البحيرة (دلتا النيل/شمال) وهدان السيد.
والأربعاء، غرق مركب يقل مئات من المهاجرين غير الشرعيين من مصر والسودان وإريتريا والصومال، في البحر الأبيض المتوسط، شمالي مصر، أمام سواحل مدينة رشيد، بمحافظة البحيرة.
وتعتبر سواحل مصر، إحدى المحطات الرئيسية للهجرة غير الشرعية نحو أوروبا.
وخلال الشهور الثلاثة الأخيرة، أعلن المتحدث باسم الجيش المصري، العميد محمد سمير، في بيانات منفصلة عن أكثر من 12 واقعة توقيف لمهاجرين غير شرعيين كانوا في طريقهم لدول أوروبية، بعدد إجمالي تجاوز ألفي شخص.
+ There are no comments
Add yours