منذ الإعتداء الذي استهدف في الـ 14 من يوليو تموز الجاري، مدينة “نيس” جنوبي فرنسا وأودى بحياة 84 شخصا، تواجه وزارة الداخلية الفرنسية ضغوطا متزايدة جراء ما رأت فيه المعارضة في البلاد “خللا أمنيا”، وذلك على خلفية صدور تقرير أمني أعدّته الشرطية الفرنسية ، ساندرا بيرتن، حول هجوم يعتبر “الأشد دموية” في البلاد بعد هجمات نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
الوزارة اتّهمت من قبل ساندرا التي تدير مركز المراقبة عبر الكاميرات لمدينة “نيس”، بـ “الضغط عليها” لتغيير محتوى تقريرها حول الانتشار الأمني مساء الاحتفال بالعيد الوطني الفرنسي، أي الليلة نفسها التي وقع فيها الإعتداء.
وفي مقابلة مع صحيفة “لوجورنال دو ديمانش”، قالت ساندرا إنّه وقع الإتصال بها من طرف مكتب الوزارة، ليطلب منها أن تشير في تقريرها إلى “نقاط تواجد الشرطة البلدية في الحواجز”، و أن “توضح أنه يمكن أيضا مشاهدة الشرطة الوطنية في نقطتين ضمن الفرق الأمنية”، رغم “عدم ظهور” أي عنصر من الشرطة الوطنية عبر فييدوهات المراقبة في مكان الحادث، بحسب الشرطية الفرنسية.
الحكومة الفرنسية لم تتأخّر كثيرا من جانبها للردّ على اتهامات ساندرا، معتبرة أن في ما صرّحت به نوعا من “التشهير” الموجّه ضدّ وزارة الداخلية، بل وصل الأمر حدّ إعلان وزير الداخلية برنار كازنوف أن وزارته تقدّمت بشكوى في الغرض ضدّ الشرطية، نافيا حدوث أي محادثة بين رجاله وساندرا.
من جهته، قال رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس، أمس الإثنين، في مقابلة له مع قناة “بي-أف-أم” الإخبارية الفرنسية، إن “برنار كازنوف رجل نزيه ورجل دولة ووزير داخلية رائع”، دون أن يتردّد في توجيه النقد للمعارضة، وخصوصا لحزب “الجمهوريين” اليميني بشأن أسلوبهم المستند إلى “الزيادة والإفتراء”، وفق تعبيره.
“جدل سياسي، بالأساس”، يتابع فالس في السياق ذاته، “يهدف إلى زعزعة الحكومة، (وقد اندلع) منذ اليوم الأول، أي فور حلول برنار كازنوف، في الليلة الفاصلة بين 14 و15 يوليو (تموز الجاري)، في نيس، وفي الوقت الذي لا يزال فيه الجرحى في ممرات ساحة الإنجليز، وأيضا جثث أولئك الذين قتلوا على يد الإرهابي، أي عندما كانت البلاد في حالة صدمة”.
وفي سياق حديثه الموجه، على وجه الخصوص، لكريستيان استروسي، رئيس إقليم “بروفنس- الآلب- كوت دازور”، أي المنطقة التي تعود إليها مدينة “نيس” إداريا بالنظر، أضاف فالس أن “الرئيس السابق لبلدية نيس ورئيس المنطقة انتخب في ظروف خاصة، في ظل تجمع جمهوري مناهض لليمين المتطرف (…) وأعتقد أنه يجب عليه أن يكون في مستوى المهمة الموكلة إليه، وأن يكون جديرا بالإنتخاب دون الدخول في جدل”.
تصريحات أعضاء الحكومة الفرنسية ضد الشرطية البلدية والمعارضة بشكل عام، لم تمر مرور الكرام بالنسبة لـ “الجمهوريين”. كريستيان استروسي، أحد أعضاء الحزب، قال أمس الاثنين، على قناة “أوروبا 1” الخاصة، موجها حديثه إلى برنار كازنوف: “أنا لا أقبل أن يهين وزير من خلف مكتبه بساحة بوفو (حيث مقر وزارة الداخلية الفرنسية)، أو في البرامج التلفزية خلال جولة على وسائل الإعلام، المسؤولين المنتخبين”.
برونو بيشيزا، أمين عام حزب “الجمهوريين” المكلف بالأمن، دعا من جانبه في بيان، نشر على الموقع الالكتروني لحزبه، وزير الداخلية كازنوف للخروج من “الغموض والتناقضات والظلال التي لا تزال مستمرة”، في ما يتعلق باعتداء “نيس”، لافتا في الإطار ذاته إلى ما اعتبره “محاولة تستر محفوفة العواقب” من قبل الحكومة.
وفي سياق متصل، انتقد فاليري ديبور، المتحدث باسم الجمهوريين، الشكوى التي تقدّم بها برنار كازنوف ضد الشرطية ساندرا بتهمة “التشهير”، متهما الوزير بـ “استخدام العدالة في محاولة لتكميم فم الشرطية البلدية”.
وفي المقابل، اتّخذ الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند موقفا أكثر حيادا من بقية أعضاء الحكومة، معتبرا أن العدالة “وحدها” و”لا شيء غيرها” قادرة على إظهار الحقيقة بخصوص انتشار الجهاز الأمني في “نيس”، ليلة الإعتداء. أولاند أضاف خلال زيارة قام بها للجيش المرابط في إطار مهمة الحراسة في ضاحية “فينسين” شرق باريس، أنه “لا يمكن أن يكون هنالك جدل أو مواجهة، وأن رئيس الوزراء مانويل فالس ووزير الداخلية برنار كازنوف أحسنا العمل بالدعوة إلى الكرامة والمسؤولية مع ضمان الشفافية”.
اعتداء “نيس” الذي يعد الهجوم الثالث الذي تشهده فرنسا منذ يناير/ كانون الثاني 2015، يختلف عن سابقيه بسبب غياب “الوحدة الوطنية”، التي تجلت في المظاهرات، على غرار “المسيرة الجمهورية” التي جابت، في حينه، شوارع باريس في أعقاب هجمات “شارلي ابدو” (صحيفة فرنسية ساخرة). فتبادل الاتهامات بين الحكومة والأحزاب اليمينية غداة هجوم “نيس” بدا العنوان الأبرز للحدث، في وقت بات الموضوع الامني يحظى بأهمية متزايدة داخل الأوساط السياسة الفرنسية.
اليمين الفرنسي قرر التفاعل، بشكل مغاير هذه المرة، في تحول استراتيجي من شأنه أن يخرج عن سيطرة الحكومة، وفق بيير إيمانويل غيغو، أستاذ التاريخ والاتصال السياسي في معهد العلوم السياسية بباريس، موضحا في تصريح للأناضول، أن “الحكومة كانت بطيئة في الرد، ولم تدرك أن اليمين وعلى رأسه كريستيان استروسي، قرر هذه المرة مهاجمتها”.
غيغو أضاف أن “الحكومة توجّهت بالفعل بعد يومين إلى البرامج التلفزيونية، بينها (برنامج) “الساعة 20” لتوضيح أن الشرطة الفرنسية لم ترتكب خطأ، في حين بقي فرانسوا أولاند “غائبا نسبيا عن خطاب التعاطف المعتاد”، الأمر الذي لم يساعد السلطة التنفيذية على تبرير تصريحاتها أمام المعارضة.
وفي ذات الإتجاه، أوضح الخبير الفرنسي أن اليمين لم يعد يخشى توجيه انتقاداته للحكومة عقب الهجمات لأنه “استخلص على ما يبدو العبرة من (هجمات) شارلي إبدو و13 نوفمبر/ تشرين الثاني، وانتبه إلى أن الوفاق الوطني يمكنه أن يعزز شعبية السلطة التنفيذية، بما أن الأمور جرت على هذا النحو ، في يناير/ كانون الثاني 2015، وعلى نحو أقل في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه، رغم اننا شهدنا زيادة بنحو 10 نقاط وفق المقاييس”.
وتابع يقول: “عندما سمعنا المعارضة وهي تنتقد الحكومة كما هو الحال في الوقت الراهن، لاحظنا تأثيرا أشد انقساما على الرأي العام، ومن المرجح أن نشهد أيضا ارتفاعا كبيرا في استطلاعات الرأي مقارنة بيناير/كانون الثاني 2015″، لافتا إلى أن ارتفاع الجدل حول الجهاز الأمني، يشير إلى أن موضوع الأمن سيحتل مكانة هامة في خلال الحملة الانتخابية الرئاسية العام المقبل.
وبالنسبة لغيغو، فإن الشأن الأمني يعتبر “أحد ابرز المواضيع التي تشغل الفرنسيين بعد البطالة، فعقب 3 هجمات في نحو عام، فإنه من البديهي أن يصبح هذا المحور موضوع الحملة (الإنتخابية)”، مشيرا إلى أن “اثنين من أبرز المرشحين، وهما مارين لو بان ونيكولا ساركوزي، سيتخذان من الموضوع حصان معركتهم الرابح وحتى ألان جوبي (وزير خارجية فرنسا الأسبق)، المعروف بإعتدال مواقفه إلى حد الآن، فقد تفاعل بشدة بعد هجوم نيس، ما خلق ردود أفعال قوية ضده”.
+ There are no comments
Add yours