ربيع السكري
اعتادت الأعمال السينمائية في مصر منذ العهد الملكي (فترة ما قبل عام 1952) على مهادنة الدولة، وإخضاع تجاربها لما يرتئيه النظام القائم، غير أنه مع انتشار منصات مواقع التواصل الاجتماعي على الفضاء الإلكتروني، وجد النقاد حرجًا في تعرية النظام.
وانعكس موقف الأنظمة الحاكمة من حرية التعبير مباشرة على أداء ووسائل النقد السياسي الفني؛ فبينما لاحق مقص الرقيب النقاد السياسيين في السينما والتلفزيون والمسرح، مثلت مواقع التواصل الاجتماعي منصات فاعلة للنقد السياسي في الوقت الراهن.
وحول ذلك، تقول الناقدة السينمائية المصرية، ماجدة خير الله، للأناضول “تميزت كل حقبة فنية في النقد السياسي، بتشويه النظام الموجود لسابقه، بينما امتاز المشهد الفني الراهن بتوسع وسائل النقد الفنية مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي”.
وفي هذا الإطار، ترصد الأناضول، محطات بارزة في النقد السياسي الفني للأنظمة الحاكمة في مصر، منذ العهد الملكي، ونهاية باحتجاز السلطات الحالية لـ”فرقة أطفال الشوارع” في وقت سابق من مايو/أيار الجاري.
و”فرقة أطفال الشوارع” هي فرقة شكّلها عدد من الشباب العاملين في المسرح، وتقوم فكرتها على إعداد مقاطع فيديو ساخرة من الأوضاع الاجتماعية والسياسية في البلاد، عبر استخدام كاميرا الهاتف الجوال، ونشرها عبر صفحة رسمية على موقع “فيسبوك”.
ومؤخرا، لاحق الأمن المصري أعضاء الفرقة، وألقى القبض عليهم بتهمة إهانة الرئيس “عبد الفتاح السيسي”.
** سينما العهد الملكي.. إرهاصات تمرد على السلطة
سعى صنَّاع السينما في العصر الملكي إلى تصوير مصر وكأنها “جنة الله في أرضه”، وفقاً لمراقبين، غير أن محاولات فنية مثلت أول مسمار في نعش الملكية، بتصويرها مشاهد مغايرة لما أرادته إدارة البلاد آنذاك.
وشهد عهد الملك “فاروق”، بداية التمرد السينمائي على السلطة، حيث مثَّل فيلم “ليلى بنت الصحراء (إنتاج 1937)، نقدًا غير مباشر للأسرة الملكية؛ ما أدى إلى منعه من العرض، آنذاك.
ودارت قصة الفيلم حول سعى “كسرى”، ملك الفرس إلى خطف فتاة من حبيبها، ومرت أحداثه حتى انتهت باقتحام قصر “كسرى” وقتله، وكان تلميح الفيلم بزواج الملكة “فوزية”، شقيقة الملك “فاروق”، من شاه إيران، آنذاك، سببا في منع عرضه.
ويعد فيلم “لاشين” (إنتاج 1938) باكورة الأعمال السينمائية في مصر التي بشرت بالثورة على الملك، بشكل مباشر.
وتدور قصة الفيلم حول حاكم متعدد العلاقات النسائية، وينشغل بها عن إدارة شؤون الرعية، موليًا الأمر لرئيس وزراء فاسد، وعندما يتعرض “لاشين”، قائد الجيش، لرئيس الوزراء محاولًا أن ينبهه لخطورة ما يفعل يتم إيداع “لاشين” في السجن؛ ليصبح العدل مرهونًا بخروجه.
وتم منع الفيلم من العرض في دور السينما؛ حيث اعتبر الملك “فاروق”، في حينها، أن الفيلم يلمح إلى شخصه.
وكان فيلم “مسمار جحا” (إنتاج 1952)، أول دعوة فنية مباشرة، للناس إلى الثورة، ورفض الظلم، وهو من الأفلام التي تم منعها من العرض، بينما تم عرضه بعد رحيل الملك مباشرة.
** حقبة “الضباط الأحرار”.. سينما التوجه الواحد
نجحت “حركة الضباط الأحرار”، في إجبار الملك “فاروق”، آخر ملوك مصر، على الرحيل عام 1952، ولحقتها محاولات للسيطرة على السينما والتلفزيون والمسرح، فأصدرت وزارة الإرشاد القومي (بمثابة وزارة للإعلام)، آنذاك، قانونًا فرض حماية الأمن والنظام العام والآداب العامة ومصالح الدولة العليا في الأعمال الفنية.
ومثلت أفلام تلك الفترة تمجيدًا في “حركة الضباط الأحرار”، وهي مجموعة من ضباط الجيش، ونالت في الوقت ذاته من الملك “فاروق”.
** سينما عبد الناصر.. آلة دعائية للنظام
امتد حكم الرئيس المصري الراحل “جمال عبدالناصر” من يونيو/حزيران 1956 وحتى سبتمبر/أيلول 1970، وكان أحد أعضاء “حركة الضباط الأحرار”.
ومثلت السينما خلال فترة رئاسته، التي عُرفت بـ”الحقبة الناصرية”، آلة دعائية روجت لانتصارات ما يُعرف بـ”ثورة 1952″، التي أطاحت بحكم الملك “فاروق” وتحقيق العدالة الاجتماعية، والقضاء على النظام الإقطاعي (تفرد مجموعة بملكية الأرض وما عليها من عباد).
كما نالت تلك الحقبة من النظام الملكي، وعملت على إبراز سلبياته، ووصلت السيطرة الحكومية خلالها إلى “تأميم” صناعة السينما، أي جعل ملكيتها مقصورة على الدولة.
ومن أبرز الأعمال السينمائية الناقدة سياسيًا، خلال الحقبة الناصرية فيلم “شيء من الخوف” (إنتاج 1969)، التي تدور قصته حول عتريس (بطل الفيلم)، الذي يلقي حتفه في النهاية بسبب ظلمه واستعباده لأهل بلده، وهو ما فسره النظام الناصري، آنذاك، بأن فيه إسقاطات سياسية على إدارة “عبد الناصر” للبلاد، وأدى ذلك إلى وقف عرض الفيلم.
قبل أن يجيز “عبد الناصر” شخصيًا عرض الفيلم، بعد أن شاهده أكثر من مرة، قائلا جملة شهيرة: “لا يمكن أن يكون الفيلم يقصدني؛ فلو كنت بهذه البشاعة حُق للناس أن يقتلوني”.
وانتشرت في الحقبة الناصرية الأفلام المناهضة للملكية، كان أبرزها فيلم “رد قلبي” (إنتاج 1957)، والذي تدور قصته حول قصة حب تجمع بين “علي” ابن البستاني، و”إنجي” ابنة الباشا (سليل الملوك).
ويتناول الفيلم حياة البذخ في العائلات الملكية، وعدم التساوي بين طبقات المجتمع في تلك الفترة.
** حقبة السادات.. سينما تعرية “الناصرية”
امتد حكم الرئيس المصري الراحل “محمد أنور السادات” من سبتمبر/أيلول 1970 وحتى أكتوبر/تشرين أول 1981.
وسارت التجربة السينمائية خلال عهد “السادات”، على ذات النهج الناصري، غير أنها لم تهتم كثيرًا بنقد الحقبة الملكية، بقدر مهاجمة نظام “عبد الناصر”؛ فعمدت إلى التركيز على كشف خفايا “الاستبداد السياسي والقمع الأمني”، لعهد الأخير، وانتهت برصد رحلة الجيش المصري في الاستعداد لحرب أكتوبر/تشرين أول 1973 ضد إسرائيل.
ومن أبرز التجارب السينمائية خلال “الحقبة الساداتية”، فيلم “العصفورة” (إنتاج 1974)، وناقش “بعض صور الفساد في المجتمع المصري قبيل هزيمة حرب 1967، متمثلة في السرقات التي تقع في القطاع الحكومي”.
بينما حكى فيلم “الكرنك” (إنتاج 1975)، عن حالة “الاستبداد السياسي والفكري والتعتيم الإعلامي”، التي انتهجها النظام الناصري.
وكشف فيلم “إحنا بتوع الأتوبيس” (إنتاج 1979)، عن “التعذيب” في أجهزة الدولة إبان عهد “عبد الناصر”، وهو مأخوذ عن قصة حقيقية سردها الكاتب الصحفي المصري الراحل، “جلال الدين الحمامصي”، في واحدة من كتاباته.
** عهد “مبارك”.. السينما للتنفيس
مع امتداد فترة حكم الرئيس الأسبق، “حسني مبارك” لما يزيد عن 30 عامًا، من أكتوبر/تشرين أول 1981 وحتى فبراير/شباط 2011، سعى النظام إلى التنفيس عن المواطنين عبر عرض الأعمال الفنية التي تنتقد السلطة، والتي تخطت في السنوات الأخيرة من عمر النظام كافة الخطوط الحمراء ودعت مباشرة لإسقاطه.
فكما مثلت أعمال فنية بعينها تأييدًا مطلقًا للنظام، شهدت أخرى جرأة في النقد، تعرضت بشكل مباشر بمسؤولين حكوميين، إلى أن مست في العشر سنوات الأخيرة من عمر النظام، الرئيس “مبارك” نفسه.
ومن أبرز الأعمال الفنية التي انتقدت الملاحقة الأمنية للسياسيين في هذه الفترة، فيلم “البريء” (إنتاج 1986).
وتناولت قصة الفيلم قضية السجن السياسي في مصر، وكيف يتم استغلال جهل الشباب الملتحق بالجيش في تعذيب المعارضين السياسيين، وارتبط الفيلم مباشرة بانتفاضة “الأمن المركزي” (قوات لمكافحة الشغب)، التي وقعت في 25 فبراير/شباط 1986، حين تظاهر عشرات الآلاف من عناصر هذه القوات في معسكر الجيزة بطريق الإسكندرية الصحراوي (غرب القاهرة)؛ احتجاجًا علي سوء أوضاعهم، وتسرب شائعات عن وجود قرار سري بمد سنوات خدمتهم الإجبارية في الجيش من ثلاث إلى خمس سنوات.
ومثَّل فيلم “ضد الحكومة” (إنتاج 1992)، انتقادًا مباشرًا للحكومة، ويحكي عن محام قرر مواجهة وزراء في الحكومة، وطالب بإقالتهم بتهمة “الإهمال”؛ على خلفية مصرع وإصابة العديد من الأطفال جراء اصطدام قطار بحافلة رحلات مدرسية.
كما ناقشت أعمال سينمائية “الفساد السياسي” داخل النظام، وسيطرة الحزب الواحد على إدارة الدولة، وانتقدت السياسة الخارجية للدولة.
وتناولت الأعمال السينمائية “دكان شحاتة” (إنتاج 2009)، و”حين ميسرة” (انتاج 2007)، و”ظاظا” (إنتاج 2006)، و”هي فوضى” (إنتاج 2007)، وغيرها، انتقادات حادة لرأس النظام وأذرع الدولة، وأُنتجت جميعها قبل سنوات قليلة من ثورة يناير/كانون ثان 2011، التي أطاحت بحكم “مبارك”.
** بعد ثورة يناير.. مواقع التواصل ترث السينما
ومع حلول ثورة يناير/كانون ثان 2011، حلت مواقع التواصل الاجتماعي، محل السينما التي سيطرت عليها الأفلام الشعبية رديئة الصنع؛ حيث وجد الجميع براحًا في نقد كل ما تقع عليه عيناه، بداية من سلوك المواطنين في مترو الأنفاق حتى حركات الرئيس أثناء خطاباته.
ومن أبرز الأعمال الفنية النقدية التي مثلت علامة بارزة في النقد السياسي للنظام الحاكم، برنامج “البرنامج” للإعلامي “باسم يوسف”، وهو برنامج تلفزيوني ساخر لم يسلم من نقده الجارح أول رئيس مدني منتخب ديمقراطيًا بمصر، “محمد مرسي”.
وسارت على نهج هذه البرنامج أعمال أخرى عارضت الإطاحة بـ”مرسي”، وعارضت تولي “السيسي” الحكم.
إذ مثلت صفحات “الكوميكس” على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” منصات حادة في نقد النظام، ومن أبرزها صفحة “أساحبي” (يا صديقي)، التي تخطى عدد متابعيها على “فيسبوك” ما يزيد عن 12 مليون متابع، وصفحة “الورقة” لرسام الكاريكاتير “إسلام جاويش”.
كما انتشرت عبر المنصات الإلكترونية ذاتها، مقاطع فيديو لفنانين هواة على غرار فرقة “أطفال الشوارع”، التي لاحقها النظام مؤخرًا أمنيًا، في مشهد يأتي ضمن سلسلة من الملاحقات الأمنية للمعارضين عبر “فيسبوك” و”تويتر”.
وربما لم يكن الشباب الستة الذين شكّلوا فريق “أطفال الشوارع”، يتصورون أن الفيديو الأخير للفرقة الذي جاء بعنوان “السيسي رئيسي جابنا ورا (تسبب في تأخير البلد)”، والذي ينتقد الرئيس المصري الحالي، ويسخر منه، قد يدفع بهم خلف أسوار السجون.
وهاجمت الناقدة السينمائية “ماجدة خير الله”، القبض على فرقة “أطفال الشوارع”، ووصفته بـ”الجريمة التي تأتي ضمن سلسلة من الاعتقالات الموجهة لأصحاب الرأي، بخلاف قيمة الرسالة التي يصدرونها للمواطنين”.
وقالت “خير الله”، للأناضول، إن “المثقفين في مصر ليسوا إرهابيين، ووسيلتهم في التعبير هي الفنون المختلفة، وهي ليست أمور مؤذية، ومع ذلك هم الفئة المستهدفة في كل زمن”.
وحول أسباب اختفاء النقد السياسي عبر السينما والتلفزيون مؤخرًا، تنسبها “خير الله” إلى “غياب حرية الرأي والتعبير، وتصدي الرقابة والأجهزة المختلفة للمواد المصورة أو المكتوبة، وسماحها فقط بانتقاد فترة زمنية سابقة لعمر النظام الموجود”.
وأوضحت الناقدة السينمائية أن “الإعلام البديل متمثلًا في مواقع التواصل الاجتماعي نجح إلى حد كبير جدًا في ملء فراغ النقد السياسي السينمائي والمسرحي والتلفزيوني بمصر، رغم المعوقات التي تواجهه”.
واتهمت خير الله أجهزة الدولة بتكوين “جيوش إلكترونية” موجهة لـ”تغيير مفاهيم المستخدمين لمواقع التواصل الاجتماعي تجاه قضية ما، أو نشر أكاذيب مخالفة للحقيقة، لمواجهة النقد عبر تلك الوسائل”.
وبشأن مميزات وسلبيات النقد السياسي عبر مواقع التواصل الاجتماعي، رأت “خير الله” أن أبرز السلبيات تتمثل في “المجال المفتوح جدًا للكل، الجميع يقول أي شيء أو يدعي أطروحات بعينها، وفي الكثير منها صفحات موجهة تابعة لمؤسسات أو مخابرات دول بعينها هدفها توجيه المواطنين لقضية ما”.
ونددت الناقدة السينمائية بملاحقة الناقدين السياسيين على مواقع التواصل الاجتماعي أمنيًا، قائلةً “من حق المواطنين الحديث بحرية والانتقاد، لكن ليس من حق الدولة معاقبتهم واغتيالهم نفسيًا وجسديًا”.
وتابعت “في أمريكا والدول الغربية مثلا هناك انتقادات للرئيس والحكومة بمنتهى السهولة، بينما في مصر هناك خطوط حمراء؛ فلا انتقاد للجيش والشرطة والقضاء والرئاسة، وبالتالي ملاحقة من يقترب من هذه التابوهات”، معتبرة أن ذلك “يتعارض مع ما ينص عليه الدستور المصري من حرية الرأي والتعبير”.
المخرج السينمائي المصري، “أمير رمسيس”، قال، من جانبه، إنه “مع انتشار النقد السياسي والمجتمعي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يبقى الأثر النقدي للسينما بارزًا وكبيرًا”، موضحًا أن “فيلم اشتباك استطاع أن يترك علامة بارزة في فترة قصيرة من انتاجه، وحتى قبل عرضه”.
وفيلم “اشتباك” هو لفريق عمل مصري، للمخرج الشاب محمد دياب، وهو انتاج 2016، ويتطرق إلى فترة المظاهرات التي شهدتها مصر عقب الإطاحة بالرئيس “محمد مرسي” في 3 يوليو/تموز 2013.
وتدور أحداث فيلم “اشتباك” داخل عربة ترحيلات تابعة للشرطة وضع فيها فئات مجتمعية مختلفة؛ حيث جسد مأساة 37 من المعارضين للإطاحة بـ”مرسي” قضوا 6 ساعات من الاحتجاز داخل حافلة ترحيلات شرطية، في أغسطس/ آب 2013، ولقوا مصرعهم مختنقين بالغاز المسيل للدموع داخل الحافلة.
وحول أسباب تأثر النقد السياسي للسينما المصرية، مؤخرًا، أضاف “رمسيس”، للأناضول، أن “هناك ميلا لصنّاع السينما المصرية نحو صناعة أفلام لايت (بعيدة عن التعقيدات والحبكة السينمائية)؛ فهي مضمونة تجاريًا (في إشارة للأفلام المنتشرة في مصر مؤخرًا ويرتبط انتاجها بالرقصات والأغاني الشعبية)؛ بسبب وضع السوق وسيطرة رأس المال على صناعة السينما”.
ويرى “رمسيس” أن النقد السياسي الفني عبر مواقع التواصل الاجتماعي، نجح في ملء فراغ النقد السياسي عبر السينما والمسرح، مؤخرًا؛ “نظرًا لأنه يلامس قطاع أوسع من المتابعين، وأسرع في الوصول إليهم، بجانب تجاوز الهوامش الرقابية التي تفرضها الدولة على صناع السينما، كما أنه يتخطى عقبات الانتاج السينمائي الضخم وسيطرة رأس المال”، حسب قوله.
+ There are no comments
Add yours