“الفولانيون” بإفريقيا.. رعاة يسرحون ما بين “التطرف” و”الثورة الاجتماعية”

1 min read

“الفولانيون”، هذه القبائل المنتشرة في نحو 15 بلدا إفريقيا، والتي ينشط معظم أفرادها في الرعي وتربية الماشية، تخوض اليوم معركة من أجل المطالبة بإشراكها في السياسات التنموية في بلدانها، واعتبارها مكوّنا اجتماعيا قادرا على تقديم قيمة مضافة على جميع الأصعدة، وخصوصا الاقتصادية منها.

إقصاء كان من البديهي أن يجعل من أفرادها فريسة سائغة للمجموعات المسلّحة والمتطرّفين الناشطين بمنطقة الساحل، ويخرج المعركة من طابعها الذي جعلها، في بدايتها، أشبه ما تكون بـ “الثورة الاجتماعية”، إلى متاهات التطرّف الذي يثقل المنطقة بأسرها، بحسب شهادات متفرقة لمختصين في الأنتروبولوجيا(علم الإنسان).

فالبعض من هؤلاء المختصين يرى أنّ “الفولانيين” مجرّد أقلية متناثرة في منطقة شاسعة ومتقلّبة، في حين يعتقد البعض الآخر بأنهم قادرون على تقديم قيمة مضافة لاقتصادات منطقة الساحل الإفريقي والصحراء، وليس ذلك فقط، وإنما يمكنهم أيضا تهدئة الأوضاع في منطقة على صفيح ساخن، وذلك في حال مراجعة السياسات السياسية والاقتصادية المعتمدة فيها.

“الفولانيون”، هذه القبائل البدوية التي ينشط أفرادها، في الغالب، في الرعي وتربية الماشية، لا تعترف بالحدود، فهي منتشرة في نحو 15 بلدا إفريقيا. شعب لا يعترف بالتقسيم الجغرافي ولا بالتسميات المتداولة لدى غيره من العرقيات، ولا يزال يحتفظ بطبيعته البدوية التي تعتبر أنّ الأرض الخصبة حيث تتوفّر مراعي لماشيتها هي الوطن، ولذلك، فهم شعب بلا وطن من منطلق كونهم رعاة يتنقلون باستمرار، ما أدّى بهم لأن يكونوا مجموعات متعدّدة القوميات، بحسب المصادر نفسها.

عبد العزيز ديالو، مختصّ أنثروبولوجي من “الفولانيين”، قال إنّ عددهم الإجمالي في القارة الإفريقية يناهز الـ 40 مليون، ويتمركزون بشكل أساسي في نيجيريا (16 مليون)، وفي غينيا كوناكري (4.9 مليون)، والسنغال (3.6 مليون)، والكاميرون (2.9 مليون)، ومالي (2.7 مليون)، والنيجر (1.6 مليون)، وبوركينا فاسو (1.2 مليون)، وتشاد (580 ألف)، وكوت ديفوار (ساحل العاج/ 423 ألف)، وموريتانيا (400 ألف)، وغينيا بيساو (320 ألف)، وغامبيا(312 ألف).

وفي الواقع، فإنّ الحضور الإفريقي للفولانيين لا يقتصر على البلدان المذكورة، وإنما يشمل أيضا كلا من بنين وتوغو وسيراليون والسودان وجنوب السودان، غير أنّ الإحصائيات بشأنهم في هذه البلدان تكاد تكون معدومة.

ورغم اختلاف وزنهم الديمغرافي في جملة البلدان التي اختاروها مستقرّا لهم، إلاّ أنّ نتائج استبعادهم من الحياة السياسية والإقتصادية بدت واضحة على أكثر من صعيد. ففي مالي، هذا البلد الذي تعبث بأمنه مجموعات مسلّحة متمركزة في الشمال وتتبنى مطالب مختلفة، تشهد إحداثيات الأوضاع في أرجائه على التعقيد المطبق على عملية الخروج من الأزمة.

المختصّ الأنتروبولوجي المالي، بوكاري سانغاري، أشار في تقرير له بعنوان “وسط مالي.. مركز التشدّد؟”، إلى أنّ عددا كبيرا من الفولانيين التحقوا بصفوف المجموعات المسلّحة والمتطرّفة، بينها حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا(أو ما يعرف اختصارا بـ “ميجاو”)، وتنظيم “القاعدة في المغرب الإسلامي”، ردّا على الانتهاكات التي تستهدفهم من قبل الجيش.

سانغاري أضاف، في حديث للأناضول، أنّ معاملتهم بتلك الطريقة من طرف العسكريين الماليين خلال عمليات تفتيش أعقبت قصف مواقع لمتشدّدين من قبل القوات الفرنسية التابعة لعملية “سرفال” العسكرية، مثّل نقطة ارتكاز دفعت نحو التصعيد من جانب الفولانيين.

وبحسب الخبير، فإنّه خلال استعادة الشمال المالي، بمساعدة التدخّل الفرنسي، بدا الجنود الماليون وكأنهم “متعطّشون للانتقام”، فكان أن صبّوا “كل ما في أعماقهم من إحباط” في الفولانيين، مخلّفين وراءهم حصيلة ثقيلة من الانتهاكات، وذلك في أولى المناطق التي وقعت استعادتها، وهي “ماسينا” (وسط)، وهذا ما غذّى، في مرحلة موالية، شعورا بالنفور والكره لدى الفولانيين حيال كلّ من يمثّل الدولة، ضمن توجّه كان لا بدّ وأن يدفع نحو البحث عن التسلّح، وإقامة التحالفات مع المجموعات المسلحة والمتطرفين الناشطين بالمنطقة.

وتابع يقول أنّ معركة الفولانيين في مالي تشكّل “هجينا” يجمع بين “التطرّف” و”الثورة الاجتماعية”.

طرح أيّده المؤرّخ ورئيس جمعية “تابتال بولاكو”، عبد العزيز ديالو، والذي لفت إلى أنّ أوضاع ومصير الفولانيين متشابه إلى حدّ كبير في جميع بلدان الساحل الإفريقي وغربه وشرقه، في وقت كان يمكن فيه، اعتمادا على دمج أفضل لتلك القبائل في بلدانها، أن تساهم بشكل فعّال في تنميتها، خصوصاً وأن تربية الماشية تمثّل ثلثي الناتج الإجمالي المحلي في جميع تلك البلدان.

واقع مرير قال المؤرخ إن الفولانيين يواجهونه، بشكل متفاوت، من مالي إلى تشاد، وصولا إلى الكاميرون وشمالي نيجيريا، مرورا بالنيجر وإفريقيا الوسطى وغيرها، ويعتبر سليل الإقصاء والتهميش، وترك تلك المجموعات لمصير مجهول في صحراء تحكمها ثنائية التهريب والإرهاب. ففي معظم المناطق التي انتهوا إليها واختاروها مقرّا لهم، يواجهون ذات الإستبعاد من المخططات التنموية، وهذا ما كان بديهة سيدفعهم إلى الغضب فالإحتقان ثم الإنفجار وإعلان ثورة اجتماعية على طريقتهم.

قبائل تضاربت الروايات التاريخية بشأن أصولها، غير أنّ الثابت بحسب موسى لام، المؤرخ والأستاذ بجامعة الشيخ أنتا ديوب بالعاصمة السنغالية داكار، هو أنّ الفولانيين ينحدرون من مصر القديمة، وقد ساهموا في إشعاع الإسلام في القارة الإفريقية في القرنين 17 و18 ميلاديا، ومع ذلك فشلوا في الحصول على تأشيرة الإندماج الإجتماعي مع ما يرافق ذلك من حقوق ذات صلة بالعمل السياسي والإقتصادي، بغض النظر عن بعض الحالات المعزولة.

الباحث إيفان غيشاوا، ذكر، من جانبه، في مقال له صدر مؤخرا بصحيفة “لوموند” الفرنسية، أنّ “توتّر الأوضاع السائد في كل من مالي وتشاد في أواخر سبعينيات القرن الماضي، وتوسّع الأراضي الزراعية المستغلة من قبل السكان المستقرين نحو الشمال، قلّص من مساحات الرعي، ما أجبر الرعاة الفولانيين على التنقّل بشكل متزايد وعبور الحدود الفاصلة بين النيجر ومالي، ليجدوا أنفسهم في اتصال مع الرعاة الطوارق، ما وضعهم في موقع غير مريح باعتبارهم ليسوا من المواطنين الماليين”.

أمّا في إفريقيا الوسطى، فأوضاع الفولانيين مأساوية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. فمع اندلاع الأزمة الطائفية في هذا البلد في 2013، استهدف الفولانيين بسلسلة من المجازر من قبل ميليشيات “أنتي بالاكا” المسيحية، والتي كانت تشكّل قطب النزاع مع تحالف “سيليكا” (إئتلاف سياسي وعسكري مسلم). هجمات دامية استهدفت هذا الشعب، بحسب المصدر ذاته، وكانت ترمي إلى “تطهير عرقي” مقنّع تحت مسمّى “نزاع طائفي” مغلوط.

وغير بعيد من إفريقيا الوسطى، وتحديدا في تشاد، يواجه الفولانيون إشكالات جمة في علاقة بأنشطتهم، فهم في الغالب متّهمون بعدم احترام القوانين المنظمة للرعي في البلاد، حتى أن المنظمات الدولية استنكرت، في العديد من المناسبات، الإنتهاكات التي تستهدف الفولانيين، مندّدة، في الآن نفسه، بأعمال العنف المرتكبة من قبل الميليشيات الفولانية ضدّ المدنيين.

وفي غينيا كوناكري، يواجه الفولانيون مشاعر حقد وكراهية تعود جذورها إلى عهد الرئيس السابق ، سيكو توريه (1958- 1984)، والذي انتابه قلق من الصعود الصاروخي لشهرة الفولاني ديالو تيلي، وهو دبلوماسي غيني وأوّل أمين عام لمنظمة الوحدة الإفريقية بين عامي 1967 و1972، فكان أن حاك ضدّه مؤامرة وهمية، بحسب المؤرخ ديالو.

بداية، يتابع المؤرخ، حظر توريه المنح الدراسية على الأطفال الفولانيين، قبل أن يرتكب مجازر بحق أشخاص تهمتهم الوحيدة حملهم لنفس لقب الدبلوماسي، بل قاد سلسلة من الإعدامات ضدّ مفكرين فولانيين، غير أنّ أقسى ما قام به تظلّ دعوته العلنية إلى “الإبادة الجماعية” للفولانيين”.

وفي موريتانيا، استهدف الفولانيون، في ثمانينيات القرن الماضي، بحملة كراهية وتمييز، على خلفية اتهامهم من قبل النظام حينها بالوقوف وراء محاولة إنقلاب فاشلة.

أما في بنين وتوغو، فالفولانيون أقلية مستقرة في الشمال، ومستبعدة من المشهد السياسي في البلدين، ويعيشون على وقع نزاعات حدودية وتوتر لا ينضب مع المزارعين، بل إن الفولانيين في بنين سبق وأن كانوا ضحية الإهانة والمضايقات في العديد من المناسبات من قبل السكان وقوات الأمن، جراء الصورة المشوهة التي تروج لها عنهم بعض وسائل الإعلام المحلية، بحسب المصدر نفسه.

توليفة قاتمة لشعب متناثر في أكثر من منطقة في القارة الإفريقية، غير أنها لا تحجب بعض الضوء المنبعث من بعض الإستثناءات. ففي السنغال، يشغل الفولانيون مناصب هامة، كما أنهم لا يواجهون الإقصاء السياسي سابق الذكر وبذات الحدّة في الكاميرون، بل إن أول رئيس للبلد الأخير (أحمدو أهيجو/ 1960- 1982) كان من أصل فولاني، والفولانيون يهيمنون على الشمال الكاميروني رغم أن السلطة بيد الجنوبيين منذ عقود من الزمن.

وفي بوركينا فاسو أيضا، هذا البلد الذي لم يشهد قطّ أزمات عرقية، تدرّس لغة “الفلفولدي” (لغة الفولانيين)، في المدارس، ما قلّص من نسب الأمية في صفوف الفولانيين.

ومما تقدّم، خلص ديالو إلى أن أوضاع الفولانيين كانت، في معظم الأوقات، من الملفات القابلة للتوظيف السياسي والديني في بعض البلدان الإفريقية. طرح لم يلق تأييدا من طرف باكايي سيسي، رئيس “التحالف الوطني للمحافظة على هوية الفولانيين واستعادة العدالة”، وهي مجموعة سياسية عسكرية (للدفاع الذاتي) أنشئت مؤخرا في مالي.

سيسي اعتبر، في حديث للأناضول، أن الفولانيين لا يتبنّون أي مطالب دينية، وهم قادرون على “الفصل بين الغثّ والسمين”، على حدّ تعبيره، مضيفا أن مجموعته للدفاع الذاتي تشكّلت احتجاجا على انتهاكات الجيش المالي، والتي من أبرزها اعتبار الفولانيين “متشدّدين” ينتمون سواء لحركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا “ميجاو”، أو لحركة أنصار الدين، أو لجبهة تحرير ماسينا بقيادة أمادو كوفا.

“نحن أبعد ما يكون عن المتطرفين”، يتابع باستياء في حديث للأناضول، و”نحن لسنا دمى بأيدي الحركات المسلحة، والتهميش والخسائر البشرية الفادحة التي تكبّدها الفولانيون، وتسبب فيها الجيش المالي وميليشياته منذ 2012 إلى اليوم، دفعتنا إلى الإتحاد من أجل المطالبة بحقوقنا”.

وتماما مثل ديالو، رأى سيسي أن الحل العسكري غير منصوح به في مثل هذه الحالات، داعيا إلى اعتماد “مخطط مارشال” (مشروع لإعادة تعمير أوروبا عقب الحرب العالمية الثانية وضعه الجنرال جورج مارشال)، من طرف بلدان المنطقة، لتحسين أوضاع الفولانيين ووضع حدّ للصراعات التي تهز أرجاء القارة السمراء.

قد يعجبك أيضاً

المزيد من الكاتب

+ There are no comments

Add yours