اعتبر “راشد الغنوشي”، رئيس “حركة النهضة” في تونس أن توجه حركته نحو إعلان “تمايزا” بين شقيها السياسي والدعوي هو نوع من “النضج” ينسجم مع نصوص الدستور، ومساعي الحركة نحو التخصص، مؤكدا على أنه “لا مصلحة للحزب في فرض وصايته على المجال الديني”.
وفي حوار مع “الأناضول”، قبيل ساعات من انطلاق المؤتمر العاشر للحركة في العاصمة تونس، يوم غد الجمعة، نفى “الغنوشي” أن تكون حركته تنازلت عن مبادئ ثورة 14 يناير/كانون الثاني 2011، عبر موافقتها على التصالح الاقتصادي مع رموز نظام الرئيس الأسبق، “زين العابدين بن علي”، الذي أطاحت به هذه الثورة، مؤكدا أن حركته “متمسكة” بمقاومة الفساد، لكن “دون تشفي وانتقام”.
وشدد، في هذا الصدد، على تمسك حركته بـ”خيار التوافق”، الذي انتهجته منذ صيف العام 2013، عندما تنازلت عن قيادة الائتلاف الحاكم لصالح حكومة من “التكنوقراط” (الأكاديميين)، قائلا: “نحن نأخذ من السلطة ما نراه صالحا للبلد، وما نراه نافعا للتحول الديمقراطي؛ فإذا رأينا وجودنا في السلطة سيهدد المسار الديمقراطي؛ فتونس أغلى علينا من السلطة”.
وفي وقت سابق من الشهر الجاري، قال “الغنوشي”، في تصريحات صحفية، إن حركته “بصدد التحول إلى حزب يتفرغ للعمل السياسي، ويتخصص في الإصلاح انطلاقا من الدولة، ويترك بقية المجالات للمجتمع المدني ليعالجها، ويتعامل معها من خلال جمعياته ومنظومة الجمعيات المستقلة عن الأحزاب بما في ذلك النهضة”.
ومعقبا على مبررات هذا التحول، المرتقب الإعلان عنه خلال المؤتمر العاشر لـ”حركة النهضة”، قال “الغنوشي” لـ”الأناضول”: “نحن لا نتحدث عن علاقة فلسفية (بين الشقين السياسي والدعوي داخل حركة النهضة)؛ لأننا نعتقد أن الإسلام دين شامل، وأن المسلم يمارس كل نشاطه في ظل عقيدته؛ فلا فصل في عقل المسلم وقلبه بين الدنيا والآخرة”.
وأضاف: “نحن نُؤْثِر استخدام كلمة التمايز والتخصص بدل كلمة الفصل (بين الشقين السياسي والدعوي) التي تعود بنا إلى فلسفات أخرى، وإلى مراجع أخرى تتعلق بمسائل فلسفية حول العلاقة بين الدين والسياسة؛ فنحن نتحدث عن تمايز وتخصص”.
والتخصص، يتابع “الغنوشي”، “كما هو معروف في أي علم من العلوم هو مرحلة من مراحل النضج؛ فعندما ينضج أي علم يتجه إلى التخصص”.
ولفت إلى أن “الحركة الإسلامية (حركة النهضة) بدأت ظاهرة مجتمعية ومشروعا شاملا في مواجهة دولة شمولية”.
ورأى أنه “الآن سقط هذا المبرر؛ فلم نبقى في مواجهة ديكتاتورية ولا في مواجهة لائكية (علمانية) متطرفة، والدستور اعترف بالإسلام، كما اعترف بالديمقراطية والحرية؛ وبالتالي لم يعد هناك مبرر للدمج بين كل أبعاد هذه الظاهرة المجتمعية، وآن الأوان لأن يتمايز ويستقل مجال السياسة عن بقية المجالات الأخرى”.
أيضا، أوضح “الغنوشي” أن “الدستور الذي نحن أهم صانعيه (تم إقراره في يناير/كانون الثاني 2014) فرض هذا التمايز؛ فمثلا في نشاط المسجد أقر هذه الدستور أن المساجد ينبغي أن تبعد عن الخصومات السياسية والخصومات الحزبية، والدستور منع ممارسة القيادة في مجالين؛ أن تُمارس القيادة في مشروع للمجتمع المدني، وفي حزب سياسي؛ فنحن ننسجم مع تطورنا الداخلي واتجاهنا للتخصص، ونتفاعل إيجابيا مع تطورنا الداخلي وتطور مجتمعنا ودولتنا”.
ولفت إلى أن حركته ليست سبّاقة في اختيار التمايز بين الشقين الدعوي والسياسي، قائلا: “نحن لسنا أول من فعل هذا؛ فهناك حركات أخرى فعلت ذلك مثل (حزب العدالة والتنمية) في المغرب، وفي تركيا مارسوا نشاطهم السياسي بمعزل عن الأوقاف وعن المشاريع الدينية ومؤسسات المجتمع الأهلي”، مضيفا: في أكثر من بلد هناك توجه نحو استقلال المجالات بعضها عن بعض”.
ورأى “الغنوشي” أن هذا التمايز “أمر مهم يفيد الحزب السياسي الذي ينطلق من مرجعية إسلامية؛ فنحن نتحدث عن مرجعية إسلامية، ونحن لا نريد سياسة منعزلة عن القيم الدينية، بل نريد سياسة ببواعث وقيم إسلامية ومقاصد شرعية”.
وتابع: “نتحدث عن أن الحزب السياسي لا مصلحة له في أن يفرض وصايته على المجال الديني، والمجال الديني لا مصلحة له في أن يظل مرتبطا بالسياسة لأن للسياسة تقلباتها. نحن لا نريد وصاية لمجال على مجال أخر، وإنما نريد مجالات مستقلة تنظيميا، ومستقلة في خططها وفي الشخصيات التي تديرها”.
ويوجّه خصوم “حركة النهضة” من السياسيين والفكريين في تونس لها تهمة المزج بين الدين والسياسة، ويعتبرون أنها “تمارس وصاية على الدين”.
في سياق آخر، علق “الغنوشي” على موافقة حركته على التصالح الاقتصادي مع رموز نظام “بن علي”، نافيا أن تكون بذلك قد تنازلت عن مبادئ ثورة 14 يناير/كانون الثاني 2011، التي أطاحت بهذا النظام.
وقال: “ليس صحيحا، نعم قدمنا تنازلات، لكن لم نتنازل عن المبادئ؛ عن مبادئ الثورة، ولا عن مبادئ الإسلام”.
ووقعت الحكومة التونسية، في 5 مايو/أيار الجاري، اتفاقية تحكيم ومصالحة اقتصادية، مع صهر “بن علي”، رجل الأعمال “سليم شيبوب”، يقوم بمقتضاها الأخير بإرجاع كل الأموال، التي يثبت القضاء أنه امتلكها بطريقة غير قانونية، إلى الخزينة العامة للدولة، مقابل وقف ملاحقته قضائيا.
وحول ما يعتبره البعض تأجيلا من “النهضة” للمعركة ضد الفساد، قال “الغنوشي”: “ليس هناك أي قرار بتأجيل المعركة ضد الفساد، نحن في الصف الأول في معركة مقاومة الفساد”.
قبل أن يضيف مستدركا: “لكن نحن لا نريد أن نخلط بين مقاومة الفساد، وبين سياسة التشفي والانتقام والثأر؛ فنحن مع مصالحة وطنية فيها محاسبة واعتذار للضحايا، وفيها توجه للمستقبل بروح سمحة”.
وفي هذا الصدد، دافع “الغنوشي” عن خيار التوافق الذي انتهجته حركته منذ صائفة عام 2013 باللقاء مع رئيس حزب “نداء تونس”، آنذاك، “الباجي قايد السبسي” (الرئيس الحالي للبلاد)، وقبول الحوار الوطني، وانسحاب “حكومة الترويكا” التي كانت تقودها “النهضة” من الحكم لفائدة حكومة مستقلة من التكنوقراط برئاسة “مهدي جمعة”.
وأضاف: “نحن تنازلنا عن مواقع سياسية لصالح التوافق، انسحبنا من السلطة لصالح التوافق، وليس مسالة دينية أن نبقى في السلطة، كما أن ذلك ليس مسالة مبدئية (لحركته)؛ فالسلطة ليست من أجلها نحيا، أو من أجلها نموت”.
وتابع: “نحن نأخذ من السلطة ما نراه صالحا للبلد، وما نراه نافعا للتحول الديمقراطي؛ فإذا رأينا وجودنا في السلطة سيهدد المسار الديمقراطي؛ فتونس أغلى علينا من السلطة”.
وأكد “الغنوشي” تمسكه بالائتلاف الحاكم في تونس حاليا، والذي يقوده حزب “نداء تونس” رغم تراجع عدد مقاعد الأخير في مجلس النواب من 86 مقعدا إلى 59 مقعدا؛ إثر انشقاق عدد من النواب عنه؛ لتصبح “حركة النهضة” القوة الأولى في البرلمان بعدد “69” نائبا.
وقال: “نحن حريصون على البلد، وعلى استقراره، وعلى تواصل الديمقراطية، ونحن على وعي كامل بالمرحلة الانتقالية التي نمر بها، وما تتصف به عادة المراحل الانتقالية من هشاشة واضطراب وتفتت لقوى السياسية؛ لأننا نعيش أعقاب ثورة، والتي تشبه أعقاب الزلزال؛ حيث تختفي تضاريس، وتظهر أخرى، والتضاريس الجديدة تبقى في حالة حركة وسيلان لا تأخذ شكلها النهائي”.
وتابع “الغنوشي”: “عقب الثورة نحن بصدد مشهد سياسي لم يتشكل بعد، والنهضة هي القطعة الأثبت؛ باعتبار أنها لم تأتي بها الثورة، بل هي سابقة للثورة التي فتحت أمامها المجالات المغلقة لكن هي كانت موجودة”.
وبالنسبة لـ”الغنوشي”، فإن “الأحزاب الأخرى (ومنها نداء تونس) كيانات جاءت بعد الثورة، وبالتالي فهي لا تزال بصدد التشكل، ومن هنا حساسية الأوضاع “.
وفي سياق متصل وحول عدم اقتراب “حركة النهضة” من المكونات المحافظة في تونس مثل الطرق الصوفية والبورجوازية المحافظة، قال “الغنوشي”: “أتوقع أن النهضة متجهة إلى مزيد من الانفتاح على كل شرائح المجتمع التونسي بما في ذلك شريحة الصوفية”.
وأضاف: “نحن لنا علاقات مع الإخوة الصوفيين، والشعب التونسي يميل إلى الصوفية في عمومه، وإن كانت دولة الاستقلال (ما بعد استقلال البلاد عن الاستعمار الفرنسي في العام 1956) أضعفت الصوفية، ولكن الشعب التونسي يبقى شعبا محافظا يميل إلى العقائد الصوفية، ولا يستسيغ المنازع السلفية، وان كانت التوجهات السلفية انتشرت في غياب جامع الزيتونة”.
وتابع موضحا: “دولة الاستقلال أغلقت الجامعة الزيتونية، وقد كان جامع الزيتونة مرجعية ذات توجه صوفي”.
وواصل قائلا: “المنظومة الدينية التونسية كانت تقوم جمعا بين المذهب المالكي والعقائد الأشعرية والتربية الصوفية، لكن هذا المنبع وقع تجفيفه وغلقه مع الاستقلال؛ فنشأت ما تشبه الفوضى الدينية في تونس، والتي أفسحت المجال أمام التيارات الوافدة على تونس التي أصبحت أرضا منخفضة تهب عليها الرياح حتى التشيع دخل تونس، والسلفية دخلت تونس؛ بسبب هذا الفراغ الديني الذي تركه جامع الزيتونة، وكان من نتائجه السلفية الجهادية، وليس هناك خلاف (للنهضة) مع الصوفية”.
وألقى “الغنوشي”، خلال المقابلة مع “الأناضول”، المزيد من الضوء على مؤتمر حركته العاشر، الذي ينطلق غدا.
وقال إن “النقاش (قبل المؤتمر) أدى الى جملة من اللوائح (رؤى للحركة في مجالات عديدة تشمل السياسي والاقتصادي) ستقدم للمؤتمر، ويمكن الاعتراض عليها بطبيعة الحال خلال المؤتمر”، دون أن يكشف عن بعض ملامح هذه اللوائح التي جرى التوافق بشأنها.
وقال: “كانت هناك أراء كثيرة ومع مواصلة النقاش توصلنا إلى توافقات حول اللوائح؛ فكل اللوائح حولها توافق”.
وأضاف: “المؤتمر سيد نفسه، ولا أقول إن حول هذه اللوائج إجماعا بل توافق، وأعني بذلك غالبية واسعة، ولكن تبقى هناك أصوات معارضة، وجدول أعمال المؤتمر يضعه المؤتمرون، والنتائج يقررها المؤتمرون، ويمكن أن يرفضوا كل اللوائح”.
وتابع متحدّثا عن حرية اختيار المؤتمرين خلال المؤتمر، معتبرا أنه تشمل كل القضايا “بما في ذلك انتخاب رئيس الحركة؛ فليس هناك شيء مفروض على المؤتمر، وليس هناك مرشح وحيد في المؤتمر، بل هناك مرشحون”.
ومن المقرر أن تجرى خلال المؤتمر انتخابات على منصف رئيس “حركة النهضة”.
ولم يتم الإعلان مسبقا عن أسماء ستخوض هذه الانتخابات على رئاسة الحركة، لكن “الغنوشي” سبق أن أعلن، في تصريحات صحفية، أنه لن يترشح لهذا المنصب مجددا.
وطول تاريخها من التأسيس في عام 1972، عقدت “حركة النهضة” حتى الآن 9 مؤتمرات عامة 5 منها سرية بتونس بين عامي 1979 و1991، عندما كانت الحركة محظورة من قبل السلطات وتواجه ملاحقات أمنية عنيفة، و3 بالخارج في هولندا وبريطانيا بين عامي 1995 و2011.
أما المؤتمر التاسع، فعقدته الحركة في تونس علنيا في في يوليو/تموز 2012، وكانت وقتها تقود الائتلاف الحاكم، إثر فوزها بالانتخابات التشريعية التي جرت في أكتوبر/تشرين الأول 2011.
وغدا تعقد الحركة مؤتمرها العاشر، الذي يرى مراقبون أنه سيكون “حاسما ومصيريا”، ليس فقط في بعده المحلي والوطني، وحسم التمايز داخل الحركة بين شقيها الدعوي والحزبي، وإنما كذلك في منحاه الدولي؛ خصوصا أن القوى الإقليمية تراقب عن كثب الوضع السياسي في تونس، وكواليس مراكز صنع القرار، والمواقف الدبلوماسية تجاه القضايا الإقليمية، بعد أن تراجع حجم التمثيل البرلماني لحزب “نداء تونس” إلى 59 نائبا بعد انشقاق عدد من نوابه، ليصبح “النهضة” في المركز الأول بـ”69″ نائبا.
+ There are no comments
Add yours