كتب- أبوبكر أبوالمجد
طفى الصراع الإثني العميق في إثيوبيا على السطح بعد وصول عرقية “الأورمو” (يشكلون 34.49% من السكان) إلى سدة الحكم بقيادة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، والذي ينتمي بنسبة أقل إلى عرقية “الأمهرا” (وهي ثاني أكبر مجموعة عرقية في إثيوبيا ويتحدثون اللغة الأمهرية، وهي اللغة الرسمية للجمهورية الإثيوبية، ويشكلون نحو 27% من عدد السكان).
هذا الصراع لا يخفى على المهتمين بالشأن الإثيوبي كونه القنبلة الموقوتة القادرة على تفتيت إثيوبيا وربما افنائها بالكلية، حيث أن التطرف العرقي يشكل التهديد الوجودي الأساسي للدولة الإثيوبية في الوقت الراهن.
وبحسب ورقة السياسات التي أعدها في يوليو 2019، البروفيسور يوناس أديي أديتو، الأستاذ المساعد للأمن الدولي وبناء السلام بمعهد الدراسات الأمنية في جامعة أديس أبابا، فإن 82% من الإثيوبيين يرون أن خطر التطرف الإثني في بلادهم كبير.
تكوين الدولة الإثيوبية يقوم دستوريًا على نظام فيدرالي، بأساسات إثنية، واستنادًا إلى الكاتب الإثيوبي- الإريتري سليمان أدونيا، فإن «الإثنية، وليس الأيديولوجيا أو الاقتصاد، هي محرك السياسة في إثيوبيا».
وإن تلك الإثنية متداخلة مزدوجة ديموغرافيًا، وذلك لأن كثيرًا من الإثيوبيين ينتمون إلى أكثر من عرق إثني، ما يجعل وقف الصراع العرقي مستحيلًا بالرغم من تحديد بعد الأقاليم والمناطق والمدن لعرقية بعينها.
وهذا يفسر بحسب مراقبين تقاتل الكثير من القبائل على مُلكية مدن كان من السهل عليهم أن يتشاركوا معًا لتنميتها وتطويرها.
ومما يغذي ديمومة هذا الصراع الإثني انتهازية بعض النخب السياسية الإثيوبية بغرض تبرير الفصل العرقي الشائع!
لكن بالطبع هناك من يرى أن ذلك تهويلًا ورؤية سوداوية للمشهد الإثيوبي؛ بينما الأمر داخليًا ليس بكل هذا السوء!
فإلى أيهما يمكن أن تسير إثيوبيا خاصة في ظل صراعها مع مصر والسودان على المياه، وترصدهما (مصر والسودان) لكل ما يمكنهما استغلاله ضد إثيوبيا كي لا تطغى أي حكومة إثيوبيىة حالية أو مستقبلية على حق شعبيهما في مياه النيل؟
خدعة آبي أحمد
بتولي آبي أحمد رئاسة وزراء إثيوبيا، تنامى أمل كبير لدى الإثيوبيين وفق خطابه السياسي، في تغيير ديمقراطي حقيقي من شأنه طي عقود متعاقبة من الديكتاتورية، والقمع، والتهميش المنهجي للأقليات والصراع العرقي والديني.
سعى أحمد، مرارًا لإنهاء هذا الصراع الإثني البغيض، والتشرذم المجتمعي؛ لكنه فشل في ذلك فشلًا ذريعًا ما جعله يسعى لإلهاء الشعب الإثيوبي عن هذا الفشل بصناعة أعداء خارجيين ويسوق لرغبة هؤلاء الأعداء سرقة أكبر ثروات الإثيوبيين وهي مياه النيل.
فجعل من مصر والسودان عدوين أمام الشعب الإثيوبي؛ على الرغم من دعمهما لبناء سد النهضة والدليل توقيعهما في 23 مارس 2015 على إعلان مبادئ حول مشروع سد النهضة في العاصمة السودانية الخرطوم بحضور رؤساء الدول الثلاث، وتضمن الاتفاق 10 مبادئ تلتزم بها الدول الثلاث بشأن سد النهضة.
وأكدت مبادئ الاتفاقية على التعاون بين الأطراف الثلاثة على أساس التفاهم المشترك، والمنفعة المشتركة، وحسن النوايا، والمكاسب للجميع، ومبادئ القانون الدولي، والتعاون في تفهم الاحتياجات المائية لدول المنبع والمصب بمختلف مناحيها، مشيرة إلى أن الغرض من سد النهضة هو توليد الطاقة، المساهمة في التنمية الاقتصادية، والترويج للتعاون عبر الحدود والتكامل الإقليمي من خلال توليد طاقة نظيفة ومستدامة يعتمد عليها، وتوفر كل من مصر وإثيوبيا والسودان البيانات والمعلومات اللازمة لإجراء الدراسات المشتركة للجنة الخبراء الوطنيين، وذلك بروح حسن النية وفى التوقيت الملائم.
لكن الطرف الإثيوبي بقيادة آبي أحمد، هو الذي أصرّ على تجاوز اتفاق المباديء ليصنع الخدعة الكبرى، ويروج للإثيوبيين رغبة المصريين والسودانيين في التدخل في شؤون إثيوبيا، والتحكم في قرارها السيادي بشأن مياه النيل، ورفضهما لأي تنمية في إثيوبيا، وهو ما يجافي الحقيقة تمامًا.
كان ظهور أحمد كرجل سلام آتٍ من «أرض الحروب» جذابًا للخارج؛ بينما كان الداخل الإثيوبي والظرف الإقليمي يدفعانه لاتخاذ قررات متطرفة؛ وفي محاولة منة لإنقاذ مسيرته السياسية، وضع بلادة في مأزق لا يتضح له مخرج واضح، عبر الدفع بالتفاوض على مشروع سد النهضة نحو حافة الهاوية، والاصطدام مع مصر والسودان، من أجل إظهار نفسه كبطل ورمز يلتف حوله الإثيوبيون، ومن ثم يحافظ على فرصه في البقاء بمنصبه.
مجازفة
آبي أحمد، يسوق للخارج خطابًا اقتصاديًا له تأثيره الكبير على الداخل الإثيوبي ربما؛ لكنه مؤقت، مفاده أن سد النهضة يمكن أن يجعل من إثيوبيا مركزًا اقتصاديًا فريدًا، ويصنع فرصًا استثمارية كبيرة لغالبية الشركات العالمية.
فهو ما عاد يطمح في مجرد توفير شبكة كهربائية، وتحقيق تنمية زراعية، فهي أهداف كان من السهل تحقيقها، عن طريق سد بسعة 14 أو 11 مليار متر مكعب، أو عن طريق بناء عشرات السدود الصغيرة؛ لكنه يرغب في إحداث تغير جيو ــ إستراتيجي في المنطقة وتولي دور الزعامة الإفريقية، بكسر وتركيع مصر والسودان، وهي مجازفة كبيرة لن تقبل مصر على وجه الخصوص بتمريرها، خاصة وأن هذه الطموحات الاقتصادية تصطدم مع درجة أمان السد، وكذلك الوضع الداخلي الإثيوبي، والذي أظهر فشل آبي أحمد، في تحقيق أهم ضمانة لبقاء السد وهي المصالحة المجتمعية.
تفتيت إثيوبيا
بحسب إحصائيات مجموعة حقوق الأقليات العالمية المنشورة ضمن “الدليل العالمي للأقليات والشعوب الأصلية”، الذي نشرته “المفوضية السامية لشؤون اللاجئين”، في يناير 2018، تضم إثيوبيا 90 مجموعة عرقية متمايزة، و80 لغة، وقاد هذا التمايز إلى الصراع العرقي، حتى سقوط نظام منغستو هيلا مريام في عام 1991، بعد تمرد طويل ضد حكومته، وبوصول الجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب إثيوبيا (ائتلاف يضم 4 كيانات عرقية، هي المنظمة الديمقراطية لشعوب أورومو، الحركة الديمقراطية لشعب الأمهرا، الحركة الديمقراطية لشعوب وقوميات جنوب إثيوبيا، وجبهة تحرير شعب تيغراي) إلى الحكم، طبق نظام جديد للحكم في إثيوبيا عُرف بـ”الفيدرالية الإثنية”، أعقبه وضع الدستور الإثيوبي في العام 1994، وقسم الدستور إثيوبيا إلى 9 ولايات عرقية ولغوية ومدينتين فيدراليتين، لكنها اليوم تتشكّل من 10 أقاليم، بعد إقرار إقليم قومية السيداما، جنوب – غرب البلاد، بهدف منع تكرار تجارب الأنظمة التي مارست القمع والاضطهاد بحق قوميات وشعوب البلاد.
أمهرة القوميات الإثيوبية هدف لا يتغير لقومية الأمهرا، ومنعها القوميات الأخرى حقها السياسي والاقتصادي والديني والثقافي، وهي التي لا تتورع عن انتقاد نظام “الفيدرالية الإثنية”، حيث تدعي أنها السبب الرئيس في تفاقم الصراعات العرقية وفق ما جاء في بيان لها وقعته 145 شخصية بارزة منها، في 19 يوليو 2018، وحذر فيه من وقوع تطهير عرقي و”بلقنة” إثيوبيا بسبب النظام الفيدرالي.
ولا يخفى غضب نخبة الأمهرا الشديد من ظهور الأورومو، التي تعد تقريبًا نصف الإمبراطورية الإثيوبية، كقوة سياسية رئيسية، وجعل إقليمهم (أوروميا) مركزًا للثقافة والسياسة والاقتصاد الإثيوبي.
وعلى المدى الطويل لا يمكن لهذا التوازن العرقي الهش ما بين التيغراي والأورومو والأمهرا، أن يستمر ما يجعل طفو الصراع العرقي مرة أخرى ليس بعيدًا وقد يؤدي حتى إلى انفصال كيان واحد أو أكثر وإلى تفتيت الدولة الفيدرالية أيضًا.
التيغراي
وحتى لا يظن القاريء أننا نبالغ، فلنذكّر بما جرى في إقليم تيغراي مؤخرًا، حيث تأسست جبهة التحرير التيغرية هذه الجبهة باعتبارها الأكثر تأثيرًا، وذلك لدورها بالهزيمة التي أُلحقت بالنظام العسكري، ويشكل التيغراي نحو 6.1% من الشعب الإثيوبي وأغلبهم يعيش في شمال البلاد.
والفكرة التي قامت عليها جبهة التحرير التيغرية هي أن الدولة الإثيوبية الحديثة قامت على الهيمنة وفرض اللغة والدين والثقافة للنخبة الأمهرية الحاكمة؛ مما أدى إلى معاناة الجماعات العرقية المختلفة من التعصب العرقي والكراهية والدونية القومية، ولذلك، وبحسب جبهة التحرير التيغرية، يجب فصل إثيوبيا عن بعضها البعض وإعادة تجميعها مرة أخرى على أساس احترام هويات واستقلالية كل مجموعة.
ويعود نجاح الجبهة في قتالها ضد النظام العسكري إلى حشد مؤيديها وراء أيديولوجية القومية التيغرية، فكانت أكثر تجانسًا، ومعظم سكانها يتشاركون لغة واحدة ودينًا واحدًا.
وكان من المتوقع، إقناع النخبة السياسية التيغرية للحركات الأخرى بأن الاستقرار المستقبلي والسلامة الإقليمية للبلد يعتمدان على منح هذه الأعراق الحكم الذاتي الإقليمي، علاوة على ذلك أن القيادة التيغرية لم تكن أقل تشبعًا من سابقاتها بأيديولوجية السيطرة المركزية، التي كانت المفهوم السائد للحكم في إثيوبيا منذ النصف الأخير من القرن الحادي عشر. وأخيرًا، يبدو أن أثر المذهب الماركسي اللينيني، وما يشتمل عليه من حق تقرير المصير القومي، بما في ذلك حق الانفصال، والذي كان جزءًا من حقائبهم السياسية منذ أيامهم كناشطين طلابيين في حركة الطلاب الإثيوبيين في الستينات والسبعينات، واضح في الجو السياسي العام في إثيوبيا آنذاك.
بعد 28 عامًا تقريبًا من سيطرة الائتلاف الحاكم ومع الاستقرار السياسي والأمن النسبيين اللذين عاشتهما إثيوبيا مقارنة بجيرانها مثل الصومال والسودان، إلا أنه لا يزال هناك أصوات تطالب بالتغيير، خاصة القومية الأورومية التي تنظر إلى تلك الفترة على أنها حقبة مظلمة تميزت بهيمنة زمرة من التيغراي على السياسة والجيش والاقتصاد وجيَّروا ذلك لمصلحتهم الخاصة؛ مما حرم الأجيال الصاعدة من الشباب من المشاركة السياسة.
كما نمت الانقسامات والصراعات العرقية في هذه الفترة، فضلًا عن خروج شباب الأورومو إلى الشوارع للاحتجاج على خطط الحكومة الفيدرالية لتوسيع العاصمة، أديس أبابا، وضمِّ أجزاء من إقليم أوروميا إليها، وما صاحب ذلك من اندلاع العنف العرقي في أجزاء أخرى من إثيوبيا، وكادت إثيوبيا تتجه بشكل أسرع إلى فوضى خارجة عن السيطرة.
على هذه الخلفية، وفي سابقة في تاريخ إثيوبيا، استقال هيلاماريام في 4 يناير 2018 من منصب رئيس وزراء إثيوبيا ورئيس الجبهة الديمقراطية الثورية للشعب الإثيوبي، وحصل تغيير سلمي للقيادة وانتقال للسلطة وسط اضطرابات مجتمعية.
انتُخب رئيس الوزراء الحالي، آبي أحمد، رئيسًا للجبهة الديمقراطية الثورية للشعب الإثيوبي، في 27 مارس 2018، وتلته تعيينه رسميًّا رئيسًا للوزراء في 2 أبريل.
قاد آبي أحمد، إصلاحات سياسية واقتصادية نسفت مصالح قادة التيغراي، فاتهمته جبهة تحرير التيغراي بالفساد وانتهاك حقوق الإنسان، خصوصًا عندما قام بدمج وتغيير الأحزاب المكونة من الائتلاف الحاكم في حزب جديد، فرأت جبهة تحرير التيغراي في تلك التطورات تهديدًا لوجودها.
وجاء قرار الحكومة بتأجيل الانتخابات ليؤجِّج الخلاف، عندئذ قررت جبهة تحرير التيغراي إجراء انتخابات دون الرجوع لأديس أبابا.
مهدت كل هذه العوامل المعلنة الطريق أمام العملية العسكرية التي شنَّتها الحكومة المركزية في منطقة التيغراي في 4 نوفمبر 2020.
وبعد قرابة شهر من الاقتتال، بمختلف أنواع الأسلحة الثقيلة والمتوسطة، وأكثر من 40 ألف لاجئ فروا بأرواحهم من الموت إلى معسكرات لاجئين قديمة مهجورة بالسودان أعيد فتحها على عجل، ومئات القتلى من المدنيين، دخلت يوم السبت 28 نوفمبر 2020، قوات الحكومة الفيدرالية الإثيوبية مدينة «ميكيلي»، عاصمة إقليم تيغراي في شمال البلاد، على الحدود مع إريتريا والسودان.
وأعلن رئيس الوزراء، آبي أحمد، نهاية العمليات الأمنية ضد الإرهابيين في الإقليم التي بدأت يوم 6 نوفمبر 2020، وتعهد بمطاردة قادة جبهة تحرير تيغراي الفارين، وتقديمهم للعدالة.
سقوط مدينة «ميكيلي» ليس نهاية الحرب؛ بل نهاية أولى مراحلها لا غير، وأن الحرب في تيغراي ستدخل قريبًا ربما مرحلة أخرى أكثر تعقيدًا وضراوة، وبأشكال مختلفة، وستكون أطول زمنًا وأكثر خسائر للطرفين؛ وأن دخول قوات الحكومة عاصمة الإقليم لا يعني أن قادة الجبهة وكوادرها المقاتلة وأنصارها قد رفعوا الراية البيضاء، وقبلوا التوقيع على وثيقة هزيمتهم، لأن ما حدث فعليًا – استنادًا إلى ما نشر من تقارير – هو أنهم، أمام ضراوة وقوة الهجوم الاتحادي، اختاروا الانسحاب من المدينة لتقليل خسائرهم، ولإدراكهم أن مقاومتهم لن تكون مجدية، وفضلوا التراجع نحو جبال عرفتهم ويعرفونها منذ أيام حرب العصابات ضد نظام منغستو الماركسي الذي أسقطوه، مع حلفائهم، بقوة بنادقهم في عام 1991.
كما أن التقارير الإخبارية تشير إلى تورط عسكري إريتري في الصراع في منطقة تيغراي، على الرغم من نفي البلدين ذلك، كما دخلت قوات سودانية في أراض متنازع عليها مع إثيوبيا.
ومع أن تقارير الأمم المتحدة تشير إلى عبور نحو 40 ألف لاجئ من منطقة الحدود إلى السودان المجاور، فإن القلق بات يتصاعد من أن الاضطرابات يمكن أن تمتد إلى مناطق إثيوبية أخرى بل إلى الصومال المجاور، وهو ما يجعل منطقة القرن الإفريقي كلها عرضة للتأثر بما يحدث في الجارة الكبرى، إثيوبيا.
وشكلت أعمال العنف الإتنية وصمة عار في ولاية رئيس الوزراء أبيي أحمد الحائز جائزة نوبل للسلام 2019، وهي تلقي بظلها على الانتخابات التشريعية المقبلة التي يخوضها للفوز بولاية جديدة.
وحدّد موعد الانتخابات في 21 يونيو، غير أن الهيئات الانتخابية تعتبر أن الاضطرابات الأمنية والمشاكل اللوجستية تجعل من المستحيل تنظيمها في هذا الموعد في 26 دائرة على الأقل.
كل ما ذكر يؤكد أن إثيوبيا داخليًا مفتوحة على الخيار الأسوأ وهو التفتيت، نظرًا لهذه النيران الإثنية المختبئة تحت تراب الاصطفاف الظاهري حول حلم السد ووعود نتائجه الاقتصادية البراقة.
+ There are no comments
Add yours