اصطياد الكتب

0 min read

إبراهيم أبوكيلة كاتب صحفي مصري

في بداية سبتمبر 1967 عقب هزيمة يونية النكراء المهينة.. لم أكن أكملت عامي السابع، وفي الإجازة الصيفية بعد أن أنهيت عامي الدراسي الأول.. ناجح ومنقول للصف الثاني بمدرسة رفاعة الطهطاوي الإبتدائية بقرية أبوغنيمة مركز سيدي سالم محافظة كفر الشيخ.

كانت السماء صافية إلا من بعض السحب التي تنذر بحلول الخريف الذي كان في ذلك الوقت أشد من الشتاء في وقتنا هذا.. ودرجة حرارة الجو مرتفعة قليلًا؛ لكنها خالية من الرطوبة التي ابتلينا بها مؤخرًا.. قبيل الظهيرة تسللت من المنزل خلسة حتى لا تمنعني أمي من الخروج.. فقد كنت مشاغبًا وأسبب لوالدي المشاكل اليومية.. وأرجع يوميا بملابسي متسخة أو ممزقة.. لم أسلك الشارع على امتداده وإنما انسللت في الزقاق المجاور لمنزلنا حتى لا تضبطنى أمي، ومنه إلى الشوارع الخلفية.

لم نكن في العادة كأطفال نتواعد على اللقاء؛ ولكن نلتقي صدفة ونتجمع لنقرر ماذا نفعل؟

نلعب كرة شراب أو نصطاد أو نتجول في الحقول لنتسلق أشجار التوت والجميز.. ولم نكن نسطع تسلق النخيل.. فكنا نلقي البلح بالحجارة ونسارع بجمع ما وقع على الأرض ونأكله بترابه، أو نذهب لسرقة الجوافة من أشجارها المتراصة على الترع وحدود الحقول.

في ذلك اليوم قررت أنا ومن صادفني من أطفال جيران أو زملاء مدرسة أو أقارب أن نقلد الكبار في صيد الأسماك من الترعة.. كان الكبار عندما تقل المياه في الترعة التي كنا نسميها بحرًا.. يقومون باختيار جزءًا من الترعة يتوسمون فيه صيدًا وفيرًا ويقيمون سدين من الطين المخلوط بقش الأرز.. ويبدأون في نزح “نطل” المياه “بالجرادل والحلل” من الجزء المختار للصيد حتى يظهر القاع ويقفز السمك من قلة الماء.. ماعدا القراميط التي كانت تجيد الاختفاء في الطين؛ ولكن ذلك التخفي لم يكن ينطلي على الكبار فكانوا يتتبعونها بمهارة ويمسكون بها ويلقونها لمن يقف بمقطف “غلق” أصغر قليلًا من القفة ليجمع به ما تم اصطياده من بوري وزقازيق “بياض ” وثعابين سمك ولكن كانت الحصيلة الأكبر من البلطي والقراميط .

كان الصيد في الترعة أكبر من أحجامنا، فقررنا اختيار أحد المصارف التي تفصل الحقول عن بعضها لنصطاد فيه.

كنت ارتدي فانلة نصف كم “لم نكن قد عرفنا الفانلات الحمالات و “لباس” من الدبلان يشبه الشورت.. كانت أم حسنة الخياطة تخيطه لنا _ لم نكن نعرف الملابس الجاهزة بعد _ وغالبا ما نكون حفاةً ونادرًا ما نضع في أقدامنا “شبشب بإصبع” أو بوت “كاوتش” من باتا أبيض اللون يعرفه أبناء جيلي.

وقع اختيارنا على أحد المصارف ونجحنا في إقامة السدين.. ونزحنا “نطلنا ” المياه بأيدينا الصغيرة.. فلم يكن معنا “جرادل أو حلل”.. وفي النهاية فشلنا في اصطياد حتى ولو سمكة واحدة.. وكنت أنا أكثرهم فشلًا لأني أخاف من الإمساك حتى بأصغر سمكة؛ لأن السمكة تفرد زعانفها وشوكها عندما تشعر بالخطر وعندما أهم بالإمساك بها تدخل أشواكها في يدي.. وعندما كبرت عرفت أن الإمساك بالسمك فن لم أجيده حتى الآن.. وإذا حاولت الإمساك بسمكة حية لابد من قطعة قماش أو بعض القش لأمسك بها.

فشلت مهمتنا واتسخت ملابسنا وأجسادنا بطين المصرف.. لم نأبه لفشلنا في الصيد، فهو لم يكن هدفنا.. الهدف هو التقليد واللعب وقضاء الوقت.. لم نلق باللوم على بعضنا.. تضاحكنا وخرجنا للطريق العام بملابسنا وأجسادنا المطينة التي جففتها حرارة الشمس.

ونحن على الطريق العام مررنا على مدرستنا ولمحنا طابورًا من تلاميذ المدرسة من مختلف الصفوف.. يصطف أمام مخزن الكتب.. تساءلنا.. ما هذا الطابور ونحن في الإجازة الصيفية؟

لم نستغرق في التساؤل طويلًا وقررنا استجلاء الأمر بأنفسنا.. وتسابقنا إلى حيث الطابور.. وفوجئنا بناظر المدرسة “الأستاذ عبدالمنعم أبوعلي” يجلس على كرسي أمام باب المخزن.. فتوقفنا وأخذنا جانبا ملتزمين الصمت.

بادرنا الناظر.. في أي صف أنت وأنت وأنت؟

فأخبره كل منا بصفه الدراسي.. فقال لنا.. قفوا في الطابور لتتسلموا الكتب الدراسية.. كان ودودًا .. لم يسألنا عن ملابسنا المتسخة ولا أجسادنا التي جف الطين عليها.. وبحث سكرتير المدرسة عن إسم كل منا وسلمنا الكتب بدون أيه مصروفات.. وانطلقنا فرحين إلى بيوتنا.. فقد خرجنا لنصطاد السمك.. وعدنا بالكتب الدراسية.

على الباب وقفت أمام أمي التي بادرتني.. أين كنت؟

تلعثمت وأنا أقول.. كنت استلم الكتب.. فردت علي بصفعة على وجهي.. كنت تتسلم الكتب في المصارف والبرك.. ولم تكتف بهذه الصفعة.. جرتني من يدي وأكملت العلقة التي كانت “تفوت ولا حد يموت”.. فلا علقة أثرت في أجسادنا ولا نصيحة أثنتنا عن شقاوتنا.

قد يعجبك أيضاً

المزيد من الكاتب

+ There are no comments

Add yours