يقف مستقبل التحالف بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، و الذي يعود إلى عدة عقود، على مفترق طرق، في ظل تخلي الولايات المتحدة عن حلفائها، وسعي أوروبا لتلمس طريق يضمن مصالحها، بعيداً عن حسابات واشنطن.
فقد تحدث الرئيس الامريكي باراك أوباما عن الانسحاب من الشرق الأوسط مبكراً، وذلك لصالح تعزيز الاهتمام بآسيا والهادئ، الأمر الذي أخذت معالمه بالظهور واحدة تلوالأخرى، ليس ابتداءً بالانسحاب العسكري من العراق في ديسمبر/كانون اول 2007، ولا انتهاءً، على ما يبدو، بمصادقة الكونغرس الأمريكي على قانون “جاستا”، في 29 سبتمبر/أيلول الماضي، الذي يستهدف المملكة العربية السعودية، الحليف “القديم” لواشنطن في الشرق الأوسط.
إلا أن الأوروبيين أدركوا بأن “الانسحاب” الأمريكي لم يقتصر على الشرق الأوسط، وبأنه يشمل أوروبا كذلك، بالرغم من كل ما يجمع ضفتي الأطلسي من تحالف ومصالح اقتصادية وأواصر ثقافية.
التخلي الأمريكي عن أوروبا
عجزت أمريكا، أو تعاجزت، عن ردع سياسات روسيا تجاه أوروبا، ففي الأعوام 2009 و2014 قامت روسيا باختيار الشتاء لقطع إمدادات الغاز عن أوكرانيا، وبالتالي عن أغلب الدول الأوروبية، التي تعتمد بشكل كبير على الغاز الروسي الذي يمر بأوكرانيا، قبل أن تقوم موسكو بالتدخل المباشر، عسكرياً وسياسياً، في أجزاء من أوكرانيا، علاوة على تهديداتها المتكررة بتنفيذ خطوات مشابهة في دول أوروبية أخرى، مثل مولدوفا وإستونيا ولاتفيا.
لم تكتف روسيا بذلك، ففي غمرة الغياب الأمريكي، فقد عملت موسكو على الاستثمار في أزمات أوروبا الاقتصادية، وخصوصاً في اليونان، وذلك سعياً لتوجيه ضربة قاضية للاتحاد الأوروبي بتفكيكه، أو على الأقل، الحصول على حلفاء من داخله، بحسب تقرير استراتيجي حديث لموقع “ويكيسترات” (Wikistrat).
لم يلبث التقدم الروسي والتخلي الأمريكي أن التقيا في الشرق الأوسط، إلا أن الأسوأ من نتائج تلك المعادلة وجده الأوروبيون على حدودهم، مهدداً أمنهم واقتصادهم ووحدتهم، والقيم الأساسية التي قامت الدولة الأوروبية الحديثة عليها.
فقد انتقل الربيع العربي إلى سوريا مطلع عام 2011، وتحول إلى حرب أهلية في غضون أشهر بعد قمع النظام للحراك السلمي ، ولم تتدخل واشنطن بالرغم من تخطي نظام بشار الأسد جميع “الخطوط الحمراء” التي وضعها الرئيس الأمريكي باراك أوباما، حتى أعلنت روسيا دخولها الحرب مطلع أكتوبر/تشرين أول 2015.
و تحول النزوح الداخلي في سوريا، جراء الحرب، إلى لجوء خارجي، حتى سجلت وكالة الأمم المتحدة للاجئين UNHCR مع نهاية عام 2015 لجوء قرابة أربعة ملايين ونصف سوري إلى الخارج، توجهت أعداد كبيرة منهم نحو أوروبا، قدرت في نفس العام بنحو 1.35 مليون (بي بي سي 4 مارس/آذار الماضي)، طلباً للأمن والعمل والمستقبل الأفضل لأبنائهم، وتأمل أعداد أكبر باللحاق بهم، بينما فقد آخرون أرواحهم في مياه المتوسط قبل أن يتمكنوا من الوصول إلى البر الأوروبي.
شكلت أزمة اللاجئين ضغوطاً هائلة على دول الاتحاد الأوروبي، سواءً من الناحية الأمنية أو الاقتصادية، وهدد تواصلها حالة الوحدة التي جمعت دولاً أوروبية لعقود، حيث فشلت بالتوصل إلى تصور مشترك للتعامل معها، وتصاعد النفس اليميني المتطرف فيها، داعياً للخروج من الاتحاد وإغلاق الحدود، حتى قام البريطانيون بالتصويت لصالح مغادرة الاتحاد، في استفاء نظم في 23 يونيو/حزيران الماضي.
الجيش الأوروبي
تسبب خروج بريطانيا بأزمة إضافية للاتحاد، وهزة أخرى لكيانه، ولكنه، من جهة أخرى، أخرج حليفاً قوياً لواشنطن من داخل الاتحاد، حيث امتلكت المملكة المتحدة ثالث أكبر عدد من الممثلين في البرلمان الأوروبي (نظراً لعدد السكان)، الأمر الذي أتاح للدول الأخرى الاجتماع بعيداً عن ممثلي لندن، لصياغة خطوات فعالة لمواجهة الأزمات المتلاحقة، تتجاوز البيت الأبيض، وربما تسعى لمعاقبته على تخليه عن أوروبا.
عقد قادة الاتحاد اجتماعاً في العاصمة السلوفاكية، براتيسلافا، في 16 سبتمبر/أيلول الماضي، تمثلت أبرز نتائجه بإقرار تأسيس اتحاد عسكري، وهو الأمر الذي كانت تعارضه لندن، ومن خلفها واشنطن، على اعتبار أنه لا حاجة لجيش أوروبي في ظل وجود حلف عسكري يضم أغلب دول الاتحاد الأوروبي، إلى جانب الولايات المتحدة ودول أخرى، هو حلف شمال الأطلسي، الناتو.
أما بالنسبة لدول الاتحاد المؤيدة للجيش الأوروبي، فإن مهامه ستكون تأمين حدود الاتحاد الخارجية، وتشكيل قوة ردع أوروبية مشتركة، في حال تلكؤ شركائهم في الناتو، إضافةً إلى منح الاتحاد المزيد من أسباب البقاء، بعد تداعي كل من الوحدة النقدية ووحدة الحدود الخارجية.
تعثر اتفاقية الشراكة عبر الأطلسي
ظهرت أولى اقتراحات تحرير التجارة بين الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبية مطلع التسعينات، لتعزيز الشراكة بين ضفتي الأطلسي، خصوصاً بعد أن انتهت الحرب الباردة، التي جمعت الطرفين في معسكر واحد لسنوات.
إلا أن الطرفين لم يتوصلا إلى صيغة متكاملة للشراكة حتى عام 2013، بعد 14 جولة من المحادثات شبه السرية، لتنطلق جولة جديدة وضعت نهاية عام 2014 موعداً نهائياً للتوصل إلى اتفاق، إلا أن هذا الأمر لم يحدث بسبب رفض الأوروبيين لشروط واشنطن، وذلك بحسب تقرير لمركز Global Research لأبحاث العولمة، نشر في 7 سبتمبر/أيلول الماضي، نقلت فيه تصريحات لوزير الاقتصاد الألماني، ونائب المستشارة الألماني أنجيلا ميركل، زيجمار جابرييل، قال فيها بأن المفاوضات قد فشلت، وبأنه “لا ينبغي على الاتحاد الأوروبي أن يوافق على المطالب الأمريكية”.
الشراكة الأوروبية-الصينية
في 16 يناير/كانون ثاني من العام الجاري، بدأ البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، المعروف اختصاراً بـAIIB، العمل، باستثمار من 37 دولةً من القارة الآسيوية، أهمها الصين المؤسسة، و20 دولة من خارجها، أهمها ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، ويعد أهم الغائبين عنه الولايات المتحدة الأمريكية واليابان.
ذكرت مجلة “ذي ديبلومات” (The Diplomat) للشؤون الآسيوية، الصادرة من طوكيو اليابانية، في 8 مايو/أيار 2015، بأن الولايات المتحدة أبدت تحفظات على البنك، ومخاوف من منافسته لكل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، خصوصاً وأن الولايات المتحدة تمتلك حق الفيتو في كلا المؤسستين، بينما تخلت بكين عن حق الفيتو في البنك الآسيوي، الأمر الذي شجع حلفاء تقليديين للولايات المتحدة بالتوجه نحو البنك الصيني، الذي وصفه تقرير للمفوضية الأوروبية في 24 أبريل/نيسان 2015، بأنه “مؤسسة نقدية واعدة في مجال التمويل العالمي المشترك”.
السياسة الضريبية
إلى جانب الجيش الأوروبي وفشل المفاوضات بشأن اتفاقية الشراكة عبر للأطلسي، ودخول دول أوروبية بقوة في البنك الآسيوي الصيني، تبرز ملفات أوراق أخرى يستخدمها الأوروبيون للضغط على شريكهم الأمريكي، أو لإظهار انزعاجهم من تخليه عنهم، وحاجته إليهم، فقد أشعلت بروكسل مؤخراً معركة مع الولايات المتحدة حول الضرائب على الشركات، ففي حين تجبر أمريكا الشركات على الإفصاح عن وضعها المالي، فإن الشركات الأمريكية في أوروبا تمتعت بأريحية كبيرة، يبدو بأنها ستبدأ بالتلاشي، مهدداً تنافسية الشركات الأمريكية في الأسواق العالمية.
في 27 أغسطس/آب الماضي، أمر الاتحاد الأوروبي الحكومة الإيرلندية بجمع 14.5 مليار دولار من عملاق التكنولوجيا الأمريكي، “أبل” (Apple)، هي ضرائب وغرامات على التأخر بتسديدها لعشر سنوات، الأمر الذي وصفته وزارة الخزانة الأمريكية، بحسب صحيفة نيويورك تايمز (30 أغسطس/آب الماضي) بـ”الخطر على روح الشراكة الاقتصادية بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي”.
يشير المشهد الحالي إلى مزيد من التفاقم، فالولايات المتحدة مقبلة على انتخابات رئاسية، يتنافس فيها كل من “هيلاري كلينتون”، عن الحزب الديموقراطي، التي عملت في إدارة أوباما، التي رسمت بدورها ملامح هذا المشهد، وعن الحزب الجمهوري “دونالد ترامب”، الذي يوصف بأنه انعزالي، وهو الذي وعد بإخراج بلاده من “الناتو” ضمن حملته الانتخابية، الأمر الذي قد يقود العلاقات الأمريكية-الأوروبية نحو المزيد من التدهور، وسيدفع دول الاتحاد الأوروبي للابتعاد عن واشنطن، بحثاً عن شراكات سياسية واقتصادية وأمنية تحل محل الغياب، أو التخلي، الأمريكي. –
+ There are no comments
Add yours