لا تزال توابع أزمة مساعي حكومة إيمانويل ماكرون، إقرار قانون التقاعد يلاقي سخطًا شعبيًا عريضًا، هبطت معه شعبية الرئيس الفرنسي، وحزبه لصالح الزعيمة اليمينية مارين لوبان. فهل يواجه ماكرون مصير ديغول؟
سقوط ديغول
يشكل ربيع عام 1968 محطة فاصلة في الحراك الاجتماعي والاقتصادي الفرنسي. ففي عز الإضرابات والمظاهرات، نزل إلى الشوارع في كل أنحاء فرنسا ما لا يقل عن 10 ملايين مواطن. وعرفت المظاهرات والإضرابات طيلة 3 شهور شلل الاقتصاد والحياة العامة وإقامة حواجز ومتاريس ومعارك شوارع بين مئات الآلاف من المحتجين ورجال الأمن.
وشكّل انضمام طلبة جامعة السوربون القائمة في الحي اللاتيني في باريس، وتلامذة المدارس الكبرى، دفعاً كبيراً للحراك الذي كاد يطيح بنظام الرئيس الجنرال شارل ديغول.
كانت خلاصة الحراك التوصل إلى ما يسمى «اتفاقيات غرونيل»، التي مكنت الموظفين والعمال والأجراء من زيادة رواتبهم بنسبة 35 في المائة، وخفض ساعات العمل الأسبوعية إلى 40 ساعة، وتعزيز حقوق العمال والنقابات.
ولم تطرح وقتها إشكالية سن التقاعد، أو بالأحرى لم تكن مركزية. لكن ديغول دفع الثمن لاحقاً عندما طرح في استفتاء عام التعديلات الدستورية التي أراد موافقة المواطنين عليها.
إلا أن هؤلاء خذلوه، فلم يتردد للحظة واحدة في الاستقالة من منصبه.
ليس جديدًا
إن ما تعيشه فرنسا هذه الأيام ليس جديداً، لا بل إن التقليد الفرنسي يقول إن كل عهد يجلب معه حركاته الاحتجاجية بما تعنيه من مظاهرات وإضرابات وأعمال عنف وشغب.
وتجدر الإشارة إلى أن القانون الفرنسي منذ عام 1864 يعترف بحق الإضراب الذي تحول إلى حق دستوري في الدستور الذي أقر في عام 1946، وثبت في دستور عام 1958.
ويطول الحديث عن الإضرابات والمظاهرات التي عرفتها فرنسا في الستين سنة الأخيرة، ومنها شكّلت علامات فارقة في بروز دور النقابات العمالية التي أنشئت أساساً للمطالبة بحقوق العمال، وتحسين ظروف عملهم ورواتبهم.
وما قبل هذه الشريحة الزمنية، لا بد من الإشارة إلى التحولات التي شهدها عام 1936 مع الفوز الانتخابي لـ«الجبهة الشعبية» اليسارية التي عانت من مظاهرات مليونية صاخبة وإضرابات شاملة أعلنتها النقابات الرئيسية، وتضمنت احتلال المصانع وأماكن العمل وتعطيل الحركة وشل الاقتصاد. وانتهت إلى توقيع اتفاقيات برعاية رئيس الحكومة وقتها، الاشتراكي ليون بلوم، وأهم ما جاءت به اختصار أسبوع العمل إلى 48 ساعة وزيادات ملموسة في الأجور والرواتب، وأيضاً قبول أرباب العمل إعطاء العمال والموظفين إجازة سنوية من أسبوعين مدفوعة الأجر، وهي المرة الأولى التي يحصل فيها تطور من هذا النوع في التاريخ الفرنسي.
وقتها، لم يطرح ملف سن التقاعد والقانون لم يأتِ على ذكره. ولقد صدر قانون بذلك لأول مرة في عام 1945 مع إطلاق صندوق الضمان الاجتماعي، وأحد فروعه يتناول التقاعد، حيث حدد سن التقاعد بـ65 عاماً.
وظل هذا القانون سارياً حتى وصول الاشتراكي فرنسوا ميتران إلى الرئاسة في عام 1981. وكان إصلاح قانون التقاعد أحد أول وأهم القوانين التي أقرها عهده، إذ أنزل سن التقاعد إلى 60 عاماً. ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، فإن كل ما يسمى «قوانين إصلاح نظام التقاعد» يهدف إلى رفع سن التقاعد، إما لأن معدل الأعمار ارتفع كثيراً قياساً، وإما لإبقاء تمويل نظام التقاعد قائماً بعد الارتفاع الملموس لأعداد المتقاعدين وارتفاع مدة حصولهم على معاشات تقاعدية.
هبوط شعبية
كان حزب “التجمع الوطني” الذي تتزعمه اليمينية مارين لوبان، أكبر مستفيد من السخط الشعبي الواسع على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي انخفضت شعبيته بشكل كبير، تزامنا مع مساعي حكومته إقرار قانون لرفع سن التقاعد، بحسب استطلاع رأي جديد أجرته صحيفة “لوجورنال دو ديمانش”.
وقال 26 بالمئة من إجمالي 1094 شخصا تم استطلاع رأيهم خلال الفترة بين 20 و21 مارس، إنهم سيدعمون مرشحي حزب التجمع الوطني الذي تقوده لوبان، بارتفاع أعلى بخمس نقاط مقارنة باستطلاع سابق تم إنجازه شهر نوفمبر الماضي، مقابل تراجع داعمي ماكرون إلى مستويات غير مسبوقة.
وعلى مدى أسابيع، تصاعدت الاحتجاجات على خطط ماكرون لمد سن التقاعد وأصبحت أكثر عنفا بعدما مررت حكومته التشريع في البرلمان بدون تصويت الأسبوع الماضي، مع افتقار حكومته إلى أغلبية واضحة.
وخلال الفترة التي سعت فيها الحكومة لتمرير مشروع قانون التقاعد دون تصويت في البرلمان، جمعت الاحتجاجات ضد المشروع، الذي يمدد سن التقاعد سنتين إلى 64 عاما، حشودا ضخمة وسلمية في مسيرات نظمتها النقابات المهنية.
لكن منذ قرار الحكومة تفادي التصويت في البرلمان الأسبوع الماضي، شهدت احتجاجات عشوائية في باريس وأماكن أخرى إضرام نيران في صناديق قمامة ونصب متاريس كل ليلة، وسط اشتباكات مع الشرطة.
وأوضحت نتائج الاستطلاع حصول لوبان على دعم ناخبين جدد ليس لديهم انتماءات سياسية، حيث قال ثلثهم تقريبا إنهم سيصوتون لمرشحي التجمع الوطني في الانتخابات التشريعية المقبلة.
وفي الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية الأخيرة شهر يونيو الماضي، حاز حزب ماكرون “الجمهورية إلى الأمام” (غير اسمه لاحقا إلى حزب النهضة) على 26.9 بالمئة من الأصوات، متقدما على حزب “الاتحاد الشعبي البيئي والاجتماعي الجديد” بزعامة جان لوك ميلنشون، بنسبة 26.3 بالمئة، ثم حزب لوبان ثالثا بـ19.2 بالمئة.
وتظهر استطلاعات الرأي أن أغلبية واسعة من الناخبين تعارض تمديد سن التقاعد عامين إلى 64 عاما. كما زاد قرار الحكومة تخطي التصويت في البرلمان من غضبهم.
واعترف المتحدث باسم الحكومة أوليفييه فيران، في مقابلة مع صحيفة لو جورنال دو ديمانش، بأن المحتجين غاضبون ويجب الاستماع إليهم.
عناد الرئيس
من جهته، قال الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون اليوم الجمعة، فى مؤتمر صحفى فى بروكسل إن أسس البنوك الأوروبية صلبة وقوية، مؤكدا أنه يجب على أوروبا أن تعمل بشكل موحد لمواجهة التحديات الدولية.
وأضاف :”نعمل من أجل الوصول إلى أهدافنا من خلال الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة”.
كما أشار إلى إن بلاده بحاجة لتصويب السياسة التجارية نحو الاتحاد الأوروبى، مضيفاً أنه يجب على الاتحاد تعزيز منطقة اليورو والوصول إلى استراتيجية مناسبة لتحقيق هذا الهدف.
وأكد ماكرون أن القانون المتعلق بنظام رفع سن التقاعد تم إقراره بالطرق التشريعية، تعليقاً على مظاهرات أمس يوم الخميس، التي انتشرت في أنحاء البلاد وتسببت في إغلاق مطار تشارل ديجول.
وقال: “سنواجه أعمال العنف التى تخللت التظاهرات بكل حزم”، مضيفاً: “لن نستسلم للعنف، وسننتظر قرار المحكمة العليا فى فرنسا بشأن إصلاح المعاش التقاعدى”.
تأجيل زيارة تشارلز الثالث
وأعلنت الحكومة البريطانية الجمعة، تأجيل زيارة الملك تشارلز الثالث، إلى فرنسا بناء على طلب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
وأكدت الرئاسة الفرنسية أن قرار التأجيل اتخذ بشكل مشترك بين لندن وباريس.
وقال قصر الإليزيه إن طلب تأجيل زيارة الملك والملكة القرينة جاء بسبب دعوات التظاهر الثلاثاء، اليوم العاشر الذي يشهد احتجاجات.
وأعلن وزير الداخلية الفرنسي، جيرالد دارمانان، اعتقال 457 شخصا وإصابة 441 شرطيا، خلال الاضطرابات التي تشهدها البلاد منذ عدة أيام احتجاجا على قانون إصلاح نظام التقاعد.
وقال دارمانان، يوم الجمعة، إن 903 حرائق اندلعت في صناديق القمامة ومرافق أخرى بالشوارع، مع دخول الاحتجاجات اليوم التاسع حتى يوم الخميس، بحسب وكالة فرانس برس.
رهان خاطيء
لا شيء يشي، حتى اليوم، بأن الحركة الاحتجاجية التي انطلقت في فرنسا منذ 19 يناير (كانون الثاني) الماضي، رفضاً لخطة الحكومية لتغيير نظام التقاعد، آخذة بالتراجع رغم التصديق على مشروع القانون يوم الاثنين الماضي، في البرلمان، ومن المرجح أن يصبح نافذاً بعد أن يعطي المجلس الدستوري رأيه في مدى ملاءمته للنص الدستوري.
كذلك، لا شيء يدل على أن الرهان الحكومي على تراجع التعبئة مصيب. وبعد أن كان منتظراً أن تنتج تصريحات الرئيس ماكرون التلفزيونية يوم الأربعاء تهدئة، فقد جاءت مفاعيلها عكسية تماماً، إذ انتشت التعبئة وازدادت أعداد المتظاهرين في باريس وبقية المدن الكبرى والمتوسطة.
والأهم من ذلك أن سلمية المظاهرات الجرارة التي انطلقت طيلة أيام التعبئة الثمانية آخذة بسلوك نهج جديد يطبعه العنف والاشتباكات مع رجال الشرطة، وإشعال الحرائق، والاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة من قبل مجموعات متطرفة مرتبطة، وفق الأوساط الأمنية، بتنظيم «البلاك بلوك» اليساري المتطرف الفوضوي، فيما عنف رجال الشرطة وعناصر قمع الشغب يتزايد يوماً بعد يوم.
+ There are no comments
Add yours