مقولة شهيرة يرددها الناس “أذكروا محاسن موتاكم”؛ وبما أن الموتى لا يملكون ضرًا ولا نفعًا وذمهم كمدحهم، فكان لزامًا أن تذكر محاسن من تأتي من خلفه المنفعة، وليس أفضل من أصحاب المقام العالي لحصد المنافع.
سبحوا بحمد الأمير أو السلطان أو الملك أو الرئيس أو الزعيم.. سبحوا بحمد الديكتاتور.. الحاكم بأمر الله وإن لم يعرف شيئًا عن شرعه.
إنها العادة الإنسانية التي خرجت من رحم خوف العامة دائما من عقوبة التفكير في قرارات الديكتاتور، ونقدها، فضلا عن الاعتراض عليها.
والتسبيح بحمد الحاكم لا تمنع الديكتاتور من البطش بالمسبحين، ولكن ما بيد العامة حيلة في اتقاء شره غير ذلك.
الديكتاتور لم يكن فقط ظل الله في الأرض أو الحاكم بأمره؛ بل بلغ منزلة الألوهية كما حال فرعون، “وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي” الآية 38 القصص، ومن ثم ليس غريبا أن يخاطب شعبه بالقول “قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ” الآية 29 غافر، وفرعون ليس بدعًا من الديكتاتوريين، فجميعهم على هذا الحال غير أن الحالة الإعلامية الإنسانية حاليًا وتناقل العالم السريع لمثل هذه الأحاديث الشاذة من خطاب الشعوب يجعل الكثيرين منهم يمتنعون عن تكرار نفس العبارات بصورة معلنة؛ لكنها محفورة في وجدانهم ومكنونهم، وأحيانًا يظهرها الله على ألسنتهم.
فما يحدث في كوريا الشمالية وخطابات زعيمها “كيم جونغ أون”، ليس ببعيد عنا، فالرجل هو رئيس الدولة ورئيس حزب العمال الحاكم ورئيس اللجنة الحكومية للدفاع والقائد العام للقوات المسلحة لكوريا الشمالية، حتى أن منصب “الأمين العام لحزب العمال” في كوريا الشمالية لم يزل باسم والده الراحل منذ 2011، الزعيم الكوري السابق كيم جونغ إل!
مثل أون كمثل فرعون كثيرون، وليسو بحاجة لأن يقولو للناس “متسمعوش كلام حد غيري”، ولا أن يذبوا عن أنفسهم بقولهم “احنا لا بنكذب ولا بنخون”، فالشعب ينظر لهم باعتبارهم أبناء الآلهة، أو روح الإله المتجسدة، وبعض الشعوب تنكر هذا أيضًا، لتنزه نفسها عن كونها تابعًا ذليلًا لعبد لا يملك من أمر نفسه شيئًا؛ لكنها الحقيقة، فتلبس الديكتاتور ثوب الكياسة والعبقرية والأخلاق والشجاعة والوطنية، حتى تبرر لنفسها التبعية العمياء.
لكن هذه الشعوب التي تنكر تبعيتها المذلة، وتمنح نفسها فهمًا ووعيًا ورؤية ليس عليها أي دليل ملموس، وتضع كل الاتهامات لها بالجهل والتخلف في إطار الحقد على تاريخها العريق، وماضيها العتيق، وزعيمها الملهم، وما تلك العبارات الناقدة للزعيم وأتباعه سوى جزءًا من مخطط سري ماسوني هدفه زعزعة أمن واستقرار الدولة.
أذكروا محاسن مولاكم، فطبيعة المرحلة تقتضي ذلك.
أذكروا محاسن مولاكم حتى لا تشمتوا في بلدكم الأعداء.
أذكروا محاسن مولاكم حتى لا تفقدوا زعيمًا وطنيًا نبيلًا حمى البلاد والعباد من شر مستطر.
أذكروا محاسن مولاكم.. توجيه دائم من الفئة المنتفعة في كل بلاد الدنيا للفئة التي تدفع ثمن كل شئ.. تدفع الضرائب ليقبضوا هم، وتبذل الجهد والعرق ليستريحوا وينعموا هم، فيزداد جسدهم نحالة وعقلهم جهالة لتنتفخ بطونهم هم، ويتعلموا فتنير عقولهم هم دون هؤلاء الذاكرين.
أذكروا محاسن مولاكم توجيه دائم من الفئة المتسلطة على الفئة المستضعفة ويكأنهم مخيرون في ذلك!
ليت هناك من يخبر تلك الفئة الناصحة أن يوفروا جهد نصحهم، فالذين يصدقونهم ويتبعون أوامرهم أو نصائحهم ليس لديهم خيار، فجزاء من لا يذكر محاسن مولاه ويسبح بحمده سجن وتنكيل وحصار في الرزق وألوان من عذاب عظيم، فهل بعد ذلك موضع لرفاهية الاختيار؟!
وليت من يضعونهم في مواضع النصح يدركون أن سحر هؤلاء ليس هو حجر الزاوية في السيطرة على الأتباع، وإنما صولجان الخوف وحده هو المسيطر، والفاعل في هذه الحالة، والخوف يلازم الجهلاء حيث الرعب الذي تسببه الخيالات يتساوى أثره عندهم ورؤية المدرعات والدبابات والقوات الخاصة.
الجهل يطيل عمر الخوف، والخوف يطيل عمر الحاكم الأبله، والمولى الفاسد؛ ولكن شمس العلم قد يطول غيابها خلف غيامة الجهل؛ لكن أخطر الخطر أنه يستحيل توقع ظهورها، وحين تظهر فستسحق سريعًا منظومة فرعون وكيم جونغ أون، فاذكروا مساوئ مولاكم فإن محاسنهم لهم ومساوءهم لنا، ودون ذكر مساوئهم لن تنصلح أحوالهم، ولا أحوال حاشيتهم.
+ There are no comments
Add yours