محمد الرميحي
جيلي الذي تربيت معه سياسيًا كان يحلم بالوحدة العربية، وكان ينظر لها على أنها الحل القاطع والناجع لكل الشرور التي تواجه (الأمة العربية) والدواء الذي ما بعده دواء. كانت أسماء مثل ساطع الحصري أو قسطنطين زريق وعبد الرحمن الكواكبي أو محمد عزة دروزة من الأسماء التي نردد أفكارها في محافلنا، ودعوتهم السياسية مُنتشلة من تاريخ أوروبا الحديث، وأعمالهم المكتوبة كانت المقصد للقراءة والمناقشة، «أمة عربية واحدة من الخليج إلى المحيط»، إلا أن القصور المعرفي الشنيع وإبدال العاطفة بدلاً عن المعرفة، وضيق أفق الحريات الفكرية وظهور قيادات أقرب إلى الجهل، أدخلت المشروع كله إلى منطقة مسدودة ومظلمة، وارتكز هذا الانسداد على فهم قيادات سياسية ومعرفية قاصرة عن هضم ما عرف لاحقًا بالتعددية وحقوق الإنسان والانصهار الوطني والمشاركة السياسية، فأنتجنا في الدول القطرية حكومات ضيقة الأفق وضبابية المقصد وديكتاتورية الأداء، حتى وصلنا إلى ما نحن فيه اليوم.
انقسام السودان كان نتيجة طبيعية لفقر المخيلة السياسية، وشهوة القبض على السلطة بالاندفاع تجاه المجهول، ولكن ليس السودان وحده الذي ذهب إلى تلك النتيجة المحزنة. من المحتمل إلى حد شبه يقيني، أن يذهب اليمن إلى التقسيم على الأقل، شمالاً وجنوبًا، إن لم يكن أكثر، ونحن نرى من جديد هذا العمى السياسي الذي ترغب فيه أقلية عزل وإقصاء الأكثرية واحتكار المال والسلطة، على ندرته وهشاشته في اليمن. وليس بعيدًا أن يذهب العراق إلى ذلك الطريق، فكل الحشد الذي قام به السيد مقتدى الصدر في الأشهر الأخيرة، حتى أوقف كل العراق على رجل واحدة، تمخض فقط عن طرد رئيس البرلمان (السني) بشكل مذل، ودخل العراق في شبه صراع طائفي وقومي، مناطقي، لا يشك العقلاء إلا أنه ذاهب إلى التقسيم سريعًا، ومع تدخل نشط بأجندة مشتركة بين إيران والولايات المتحدة، حتى قال لي أحد الثقاة من العراقيين أخيرًا إن «إيران والولايات المتحدة تتحدث نفس اللغة في العراق اليوم»، فلا الأكراد بقابلين بعد طول عناء أن يسلموا ذقونهم ومصالحهم إلى سلطة مرتبكة وركيكة ومسيّرة من الخارج، ولا القوى السياسية الشيعية في معظمها (ولا أقول مجملها) براغبة في ترك مكان معقول للمشاركة الحقيقية مع المكونات الأخرى، لأن ذلك مخالف لرغبة طهران، فالعراق إذن ذاهب إلى التقسيم الثلاثي، إنْ عاجلاً أو آجلاً.
في ليبيا الأمور تبدو معها تباشير التقسيم واضحة؛ فالدولة الليبية التي نعرفها كانت قد جُمعت في خمسينات القرن الماضي من ثلاث ولايات، لم تكن المصالح الغربية بعيدة عن الدفع بذلك التجمع لتحقيق مصالحها، فوضعت دستورًا وحكومة حديثة، كل عن مقصدها الصحيح محرف، ثم انتهت تحت حكم رجل واحد، فيه خلطة عجيبة من «الجهل والخيلاء» حتى غدا الرئيس «ملك ملوك أفريقيا»، والناس، وأقصد العقلاء منهم وغير أهل المصالح، يضحكون من هذا الطاووس! ذلك الطاووس وطريقة حكمه ومن معه في استخدام المكونات الليبية ضد بعضها سلبت الحقوق الطبيعية، فكل حق يحصل عليه المواطن الليبي هي «مكرمة من القائد»، ذلك مهد إلى ما نتوقع الآن، ذهاب ليبيا إلى ثلاثية مناطقية متصارعة يبدو الآن أمرًا محتومًا.
سوريا لن تعود موحدة، التباشير التي تشي أنها ستكون على الأقل كونفيدرالية أو حتى مقسمة، مكتوبة على الجدران، ما علينا إلا قراءة الأدبيات الصادرة من بعض الجماعات، بعضها يريد ألا يقع مكونه الاجتماعي إما تحت «رحمة» الأعداء، أو «صلف» الأصدقاء، وبعضها يرغب في التمثُل بأقرانه في مناطق مجاورة حصلوا على «الحكم الذاتي»، يضاف إليه صلف غير مسبوق في الاستهانة بالحد الأدنى من الحقوق للمواطنين السوريين، تجذرت حتى غدا قتل مئات الآلاف من البشر «خبرًا قديمًا لا يهز شعرة من شعرات رأس أهل الحكم في دمشق»!.
الصراع لا ينتهي هناك، فكثير من الدول العربية بسبب نفس العوامل التي ذكرت مع غيرها، أي بسبب غياب «تأسيس الدولة على المواطنة الحديثة» تسير بذلك الاتجاه. المرارة التي يشعر بها كثيرون إن ذلك الطريق (التفتيت والتقسيم) هي في أول الطريق لا في آخره، أمامنا ربع قرن على الأقل من صراعات محتدمة بين المكونات الاجتماعية في عدد من الدول العربية، فلا اليمن على مقربة من الانفراج لأسباب واضحة، منها التدخل الإيراني وعقيدة الحوثي بـ«الحكم الإلهي» كما في إيران، ولا ليبيا أمامها حل قريب أو في الأفق المنظور، أما سوريا فسوف تبقى هناك مع تقاطع مصالح كبرى وعض على الأصابع بين تلك القوى. المعضلة أن حل التقسيم، وإن بدا أنه الحل الممكن، إلا أنه بالقطع يخرب الأوطان لا يبنيها، والتفتيت ليس حلاً، بل جالب لمشكلات أكبر وأعقد. مثال على ذلك السودان، فليس جنوبه اليوم ولا حتى شماله في حال أفضل، ولا يرجى أن يكون في حال أفضل، يتدحرج السودان إلى مستنقع صراعي بالغ التعقيد، فالشمال أو قل أجزاء منه (دارفور) لها من يدخلها في صراع مسلح للانفكاك مما بقي من الدولة السودانية، وتلك معضلة سوف يواجهها اليمنيون، فتاريخ (إمارات اليمن الجنوبي) ليس ببعيد، وقد ظهرت أصوات اليوم تتحدث ليس عن جنوب، شمال، ولكن في داخل الشمال والجنوب. أما في سوريا، ففسيفساء الإثنيات والقوميات التي بدا أنها «صهرت» تحت حكم الفاشية البعثية بقوة التخويف وسلطة الأجهزة السرية، تتنفس اليوم ولا ترغب في أن تعود إلى «جمهورية الخوف» بالأسد أو دون الأسد.
لقد وقعنا كعرب في هذه الفترة التاريخية في «فجوة عميقة وشريرة» معادلتها أن هناك، بسبب التطور الإنساني، «مواطنًا معلومًا» ودولة «محلية» تعتمد في حكمها على التقليد وعلى أدوات سيطرة تقليدية، أي بكلمات أخرى، الفشل في تجسير الفجوة التي أحدثتها العولمة بحلول منطقية وحديثة، وتجاهل التأقلم مع الجديد الذي أنتج بدوره أفكارًا جديدة لم تعد معها صالحة الأدوات القديمة. لقد تغير العالم وأصبحت مجتمعاته ودوله تنتج أدوات حديثة للانصهار والتأقلم، وتوجه العرب إلى ما يعرفونه من تقسيم المقسم وتشطير المشطور.
بودي أن أقول إن ذلك مؤقت أو مرحلة انتقالية، ولكن ذلك القول هو تمنٍ لا أكثر، لسببين؛ الأول أن الحروب الأهلية تترك في الأجيال كراهية غائرة ووقت شفائها طويل، والسبب الثاني لأن النخب العربية حتى الآن متخندقة مثل غالب حكوماتها في القديم المعروف. لقد أصبح هناك مفهوم يتداول الآن عنوانه «فشل النخب العربية» في التفكير في الجديد، هي تتطلع في المرآة العاكسة وتعتقد أنه الطريق إلى الأمام! ولا أكثر من هذا الوهم وهمًا!!
آخر الكلام:
اجتماع الحكومة الإسرائيلية في الجولان لم يحرك في نظام الأسد (المقاوم) إلا اللسان! مسكينة فلسطين.. كم من الآثام ترتكب باسمها!
+ There are no comments
Add yours